خلافة رئاسة السلطة: النأي عن الاشتباك مع الواقع

خلافة رئاسة السلطة: النأي عن الاشتباك مع الواقع

23 أكتوبر 2016
(في رام الله، كانون الثاني 2015، تصوير: عباس المومني)
+ الخط -

الكتابة فعل اكتشاف، طريق يفتتحه الكاتب سعيًا وراء قول ما يجب قوله. تفترض الكتابة أن هناك طبيعة خفية في ظاهرة ما يتغيا من ورائها الكاتب كشفها أمام الرأي العام. ولكن إذا ما كان مظهر الأشياء متطابقًا مع جوهرها، يصبح فعل الكتابة، والحالة هذه، نافلًا.

يحضر هذا المدخل أثناء الشروع في كتابة هذا المقال: ما هي الفائدة المبتغاة من الكتابة عما هو واضح ولا يخفي ما يستدعي إعمال العقل لكشفه أمام الوعي؟

هذا بالضبط ما يواجه الشروع في الكتابة عن خلافة رئاسة السلطة الفلسطينية. فليس هاهنا ما هو مستتر في سباق الرئاسة، فظاهرها باطنها. يتبدى ذلك عند متابعة تصريحات القيادة الفتحاوية. يتداول الإعلام عددًا من الأسماء يجمعها خط عام مشترك، هذا أولًا. وثانيًا عند متابعة ما يجري داخل البيت الفتحاوي من جراء المنافسة على الرئاسة تكشف عن صراع حاد لكسب السباق. فقد أشارت قيادات فتحاوية إلى أن "الكل يضمر ويعمل بكل قوة حتى لو سال الدم وفي كل الاتجاهات من أجل الرئاسة، وأن قواعد الحركة ملَّت هذا الصراع، وأن الجميع يريد أن يكون رئيسًا وبأي ثمن".

وثالثًا، إن المتبارين يحاولون إظهار علاقاتهم الدولية لقواعدهم، بكثافة الزيارات واللقاءات في الخارج، وسرد كل ما من شأنه أن يشير إلى مدى مقبوليتهم دوليًا وإقليميًا. ورابعًا، عبرت أوساط فتحاوية عما معناه أن الترشيح لـ"خلافة عباس" لم يكن يومًا قرارًا فتحاويًا خالصًا، فشخصيات في مواقع قيادية أقل كانت تحتاج لرضى إقليمي ودولي وإسرائيلي، فكيف بموقع مثل موقع الرئيس.

وأخيرًا تغيب عن هذا الصراع الرئاسي ثلاث مسائل ذات دلالة؛ الأولى، لم يشارك فيه من هم خارج حركة فتح؛ ثانيًا أنه صراع من دون برنامج سياسي جديد يراعي التحولات التي يشهدها الحقل السياسي، والهزيمة التي تكبدتها فتح ومشروعها السياسي، فضلًا عن استمرار الانقسام الجغرافي بين غزة والضفة؛ أخيرًا، لم يراع تطلعات الشارع الفلسطيني وحساسيته، انطلاقًا من مقولة يستخدمها مثقفو السلطة لتبرير ما لا يمكن قبوله مجتمعيًا تضمر نظرة استشراقية عنصرية فوقية تُجهِل المجتمع الفلسطيني، كما جاءت على لسان أحدهم، وهي: "لا يمكن للسياسة أن تكون بما معناه ما يطلبه الجمهور".

يوجِزُ ما سلف الخطوط العريضة إزاء حقيقة موقع الرئاسة. فالخط العام الناظم لدوران النخبة في النظام السياسي الرسمي المخترق دوليًا وإقليميًا، يخضع لآليات استعمارية في نهاية المطاف، وهي ذات أثر حاسم في تحديد من يشغل المواقع العليا.

فالظرف الكولونيالي، يصوغ عمليات تشكيل النخب الرسمية. ووفقًا لتصريحات البيت الفتحاوي، يبقى منصب الرئيس مشروطًا خارجيًا ووظيفيًا. ويجري التعاطي مع ذلك كحقيقة مسلم بها وكأمر طبيعي ومعطى ثابت لا حيلة تجاهه، وأن التحرك تحت سقفه هو الخيار العملي المقبول. لقد عبر المفكر الفلسطيني إسماعيل ناشف ذات مرة عن ذلك عندما أشار إلى أن النخب الفلسطينية المختلفة بنت فهمها للواقع الاستعماري عبر طموحها لاحتلال موقع داخل النظام الاستعماري، وليس تأطيرًا انعتاقيًا من النظام. فلم يكن غريبًا قبول جزء من النخب بأي شكل من الكيانية الهزيلة طالما أنها تستطيع ممارسة طموحها هذا.

ما تفصح عنه التصريحات السالفة بجلاء هو أن المسرح السياسي الرسمي لا يمتلك أية وسيلة للإفلات من نظام السيطرة والقطع مع الظرف الكولونيالي، هذا عدا أنه مصمم من أجل ذلك.

الانتخابات ضد السياسة

عند متابعة تاريخ الممارسة الانتخابية فلسطينيًا نلحظ أنها محكومة بوعي يومي ينتهك السياسة، تتحول لاحقًا إلى رأس مال سياسي. فعند متابعة مسلكيات بعض المتنافسين على الرئاسة في الغضون، يتبدى المال السياسي من مدخل المساعدات الإنسانية لكي يعاد ترميم علاقات البعض منهم مع جمهوره، في استبطان سياسة الرجل الأبيض الاستعمارية تجاه الفلسطينيين (مع أهمية الهموم اليومية للفرد الفلسطيني إلا أن التجربة علمتنا أن الإنساني في السياق الاستعماري ضد السياسي دومًا).

ويجري تسويق هذا الأمر بوصفه موقفًا وطنيًا يستحق الإشادة بالرغم من وجود اتهامات عن تجاوزات مالية أثيرت بحق من يمارس هذا العمل فضلًا عن "وجود ملفات اغتيالٍ متهم فيها"، ناهيك عن علاقات حميمية مع قيادات إسرائيلية. ويُسوِّق موقفه لاحقًا بالترويج إلى أن الناس تدعمه بسبب خياره السياسي والإيديولوجي، علمًا أن كل ما هنالك هو أن الطرود الغذائية وما يقدمه البعض من مساعدات نقدية مقابل صوت الناس، تتحول لاحقًا إلى مشروع سياسي. وهذا يجعل الانتخابات في هذه الحالة ليست مقياسًا لمعرفة حقيقة خيارات عموم الناس السياسية والإيديولوجية. ومن هنا لا شك في أن المجال السياسي الرسمي ليس بموقعٍ لقول الحقيقة ولا مجال للفاعلية ولا للتحرير.

إن هذه الوضعية لنظام سياسي شبه دولاني ظرفي ومشوه وغير مكتمل، توضح مدى تأثير الآليات الاستعمارية على دوران النخبة، إذ يمسي مسيرو النظام مجرد وسطاء تابعين بلا هوية يتكلمون بلغات مختلف الأقطار التي يخدمونها، فلكي يعمل كوسيط فاعل عليه أن ينفي ما هو من خلال تطوير قابليته لحمل هويات مختلفة ومتعددة، ومن هنا قدرته على التواري خلف ستار كثيف متلبس بغطاء وطني ومتنفذ محليًا وإقليميًا ودوليًا. ومن هنا تنعدم في هذا الفضاء، مساحة التفاوض بين المجموعات الاجتماعية من أجل التغيير السياسي الحقيقي.

لماذا الآن؟

على ضوء الخلفية السابقة كمحاولة لفهم حدود موقع الرئاسة ومحددات دوران النخبة الرسمية، يبقى طرح "خلافة عباس" قبل رحيله مثيرًا للاهتمام ما يضع علامات استفهام تنبئ بمخاطر ومخططات ذات سقف سياسي أدنى. ويجري تجهيز المسرح السياسي استعدادًا لتمريرها. تترافق مع ذلك إعادة تموضع واستقطاب إقليمي غير مسبوق، وتطييف للصراعات في المنطقة، وتغلُّب الثورة المضادة، وجمود ما يسمى بـ"عملية السلام".

لكن اللافت أن طرح هذا الموضوع للنقاش العام جيء بُعيد توتر الخلاف بين القيادي الفتحاوي محمد دحلان والرئيس أبو مازن، وتصاعد الصراع داخل البيت الفتحاوي، وقدرة دحلان، المنافس الأبرز لأبي مازن، على تسويق نفسه إقليميًا ودوليًا، وتبنيه من قبل أطراف عربية تمارس الضغوط على أبو مازن. في سياق ذلك، يجب التأكيد أن دحلان هو خريج المؤسسة الرسمية (كما هي الحال مع بقية المتنافسين) وأن استخدام هذا الموقع لتحقيق طموحه في القيادة بمساعدة الخارج من أجل النفاذ محليًا يعتبر من قواعد العمل السياسي.

في ظل التحولات السالفة، على ما يبدو أن الإقليم والوضع الداخلي بات جاهزًا لمخطط يراعي الشروط الإسرائيلية في نهاية المطاف. بداية يجب توضيح الخط العام الناظم الذي يرسم حدود ما يطرح على الفلسطينيين. في عجالة ولأغراض هذا المقال، يمكن القول إن قدرة النظام الاستعماري على إعادة إنتاج نفسه تتوقف على مدى قدرته على إدارة المستثنين (المستعمَرين) والتحكم بهم.

ولهذا فالنظام يوفر لهم، أي للمستعمَرين، حدًا أدنى معيشيًا، وحدًا أدنى من مسرح سياسي للمناورة تجري فيه صياغة الوعي للقبول باطنيًا بمعايير النظام المهيمن، لكي يتجاوب المضطَهدون بطريقة تكيفية مع هذه المعايير ولجعلهم يشعرون بأنهم مشمولون. ولأن النظام الاستعماري يدرك أن المخاطر تأتي من حيز اللانظام، أي حيز المستعمَرين، فإنه لمواجهة أزمات النظام الاستعماري يبحث عن بالوعات اجتماعية يُصدر إليها مشاكله.

وجدير بالإشارة أن كل مقاومة حقيقية هي تلك التي تعمل وتشجع على التحرك خارج إطار المجتمع المهيمن؛ أي خارج الحد الأدنى الذي يحدده لهم النظام، والتحول إلى نواة بديلة. في هذا السياق، تأتي خلافة الرئيس مترافقة مع الانعطافة الكبرى التي يشهدها الإقليم والتي توفر فرصة سياسية ستفضي، في حدود علاقات القوى السائدة، إلى نظام إقليمي متمركز حول إسرائيل، والقبول بموقعها مركزًا للهيمنة.

ولذا يأتي طرح ملف الرئاسة بهدف تعديل مسار أوسلو لترميم المسرح السياسي الرسمي وتجهيزه لكي يكون قادرًا على امتصاص التناقضات الاجتماعية أو حالة اللانظام، من خلال استدخال فاعلين جدد، ومن هنا قد تحمِّل لنا خلافة عباس مفاجآت غير متوقعة، بالإضافة إلى توفير مسرح سياسي فلسطيني يمتلك القدرة على تكريس الوضع القائم الذي تستثمر فيه إسرائيل، وتحويل ذلك إلى انتصار فلسطيني من خلال تضليل الأغلبية المقهورة بخلق إحساس خرافي لديهم بأنه يستعصي عليهم تغيير هذا العالم، ونشر ثقافة الصمت، وإرجاء القضايا لحين تسنح الظروف (التي لن تأتي من دون فعل وممارسة يستثمر في الزمن لمصلحتها) وإقناعهم بأن المجتمع القهري هو مجتمع الحرية، فضلاً عن استيعاب انتفاضة السكاكين التي ما تزال الأجهزة الصهيونية تفشل في التعامل معها.


* باحث فلسطيني / غزة

المساهمون