بيوت تشيلي... كبار السنّ العرب في أمان

بيوت تشيلي... كبار السنّ العرب في أمان

29 ابريل 2020
قادرون على تسلية أنفسهم في الدار (العربي الجديد)
+ الخط -
أحد العرب الذين هاجروا إلى تشيلي شيّد في ثلاثينيات القرن الماضي داراً لإيواء الشباب العرب الذين لا مأوى لهم، لتتحول هذه الدار أو البيوت إلى مكان لإيواء المسنين العرب
تتوسّط عرائش العنب وأشجار مثمرة متنوعة، مساحة شُيّدت على جانبيها بيوت عمر بعضها من عمر هؤلاء المقيمين فيها وأكثر. إنه مجمّع سكني عبارة عن منازل متلاصقة لمن قضوا حياتهم في المهجر التشيلي.. وبعضهم من المقيمين فيه من كبار السن، يتحدّرون من أصول عربية. هؤلاء وُلدوا وكبروا في هذه البلاد.
"مرحباً يا ماريا، كم عمرك اليوم؟". نسأل سيدة في الـ85 من العمر. تجلس في النادي الرياضي مع نساء أخريات وممرضة من تشيلي. ماريا التي كانت تتدرّب على إحدى الآليات الرياضية، تجيب: "25 عاماً". تقول الممرضة إنها تعاني من مرض الخرف، لكنها أحياناً تعرف تماماً كل شيء حين يكون ذهنها صافيا. وربما عمر الـ25 عاماً يعني لها شيئاً جميلاً ما زال عالقاً في ذاكرتها.
فكرة الدار أطلقها مهاجر سوري قدم إلى تشيلي. خطرت لإبراهيم عطا الله صقور فكرة إنشاء دار نفّذها في عام 1933. في البداية، كانت الفكرة أن "يؤوي هذا المكان جميع المهاجرين العرب من الشباب الذين لا مكان لهم ليقيموا فيه"، كما يقول لـ"العربي الجديد" الصحافي الفلسطيني التشيلي غسان قحاط، أثناء جولة في دار المسنين. كان جده بشارة خميس مديراً للدار على مدى 30 عاماً، وبات يعرف المكان جيداً بسبب كثرة زيارته. ويذكر قحاط: "إذا قارنت بين دور المسنين في تشيلي وهذه الدار، فيمكن أن تصاب بصدمة، وهو ما تتحدث عنه الصحافة ومنظمات حقوقية، إذ أن كبار السن يعيشون أحياناً كثيرة أوضاعاً مزرية، ولا يلقون أية رعاية كما في هذه الدار. لهذا، فإن قائمة الانتظار للالتحاق بالدار طويلة".
وبعد فترة من ترتيب أوضاع القادمين الجدد، أصبح للعرب مكانتهم في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، من الناحيتين المالية والاجتماعية. وسعى صقور ومجموعة من الفلسطينيين إلى التفكير في الإبقاء على الدار لمساعدة كبار السن من المهاجرين، "ففي تلك الأيام لم تكن تشيلي بلدا متطورا، وبالتالي لم تكن لكبار السن أماكن مخصصة لرعايتهم وتلبية بعض متطلباتهم الثقافية وغيرها"، كما يقول التسعيني جابر صالح إزرينه، ابن بيت جالا والمولود في شمال تشيلي، والذي كان مديراً للدار سابقاً. 


أما المدير الحالي للدار خوسيه خميس، فيقول إن الدار تطوّرت بعد عام 1935، و"تبرّع فلسطينيون مقتدرون بأموال كثيرة على مدى العقود الماضية". يضيف: "في هذه الدار يوجد نحو 30 منزلاً، ويقيم فيها 48 رجلاً وامرأة من كبار السن. وفي بعض البيوت يقطن شخصان حتى لا يشعران بالوحدة. وهناك أماكن مخصصة لمن هم غير قادرين على الحركة".

أثناء التجوال بين بيوت الدار، تقول المديرة الإدارية ريما قحاط خميس (38 عاماً) إن المكان "يضم 40 موظفاً للاعتناء بكبار السن، بينهم ممرضات وطبيب أعصاب وطبيب نفسي ومدربان على العلاج الفيزيائي ومصفف شعر للرجال والنساء".
ويذكر خميس أنه مع إنشاء الدار، كانت هناك حماسة بين مختلف الجاليات، فتجد أن جالية حمص تسعى إلى المساعدة مثل جالية القدس وبيت لحم وبيت جالا وآخرين. هؤلاء الذين وطأت أقدامهم تشيلي في خمسينيات القرن الماضي، كانوا يشعرون بحماسة للاعتناء بكبار السن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العاصمة سانتياغو في ذلك الوقت لم يكن فيها مثل هذه الدار، وقد قبلنا حالات تشيلية لتقيم في أحد المنازل".
المنازل مكونة من غرفتين وصالة، ودورة مياه مع بانيو. وتتولى الممرضات العناية بنظافة كبار السن. إضافة إلى ما سبق، يوجد مطبخ صغير وحديقة وشرفة خلفية. وعادة ما يجلس المسنون في الهواء الطلق خلال النهار. وتطل الدار على مساحات خضراء، فيها مقاعد تحت الأشجار المثمرة ودوالي العنب.
ولا يُترك كبار السن من دون نشاطات. إضافة إلى العلاج الفيزيائي والسباحة وغيرها في القاعة الرياضية، فإن مشروع كتابة قصص حياتهم يجذبهم، كما تقول ريما. تضيف: "من يرغب في الخروج إلى المدينة للتبضع مثلاً، تقوم سيارة وموظف بأخذ الراغب إلى مقصده وإعادته حين ينتهي". كما تنظم ثلاث رحلات في السنة إلى النادي الفلسطيني والنادي السوري، وتكون رحلة جماعية في حافلة مخصصة لهم مع الموظفين. في هذه الأندية المشار إليها، تنتشر مطاعم عربية ومسابح ومدربون، ما يمنح كبار السن فرصة لممارسة بعض النشاطات. وبعض المقيمين في الدار، القادرين ذهنياً وجسدياً، يستطيعون الخروج بأنفسهم إلى المدينة والعودة بكل حرية.
بعض كبار السن يخرجون مع الأبناء والأحفاد من 5 إلى 6 مرات في الأسبوع. وهؤلاء الذين ليست لديهم عائلة، مثل التسعيني بيدرو (من أصل سوري)، يأخذه أصدقاؤه في رحلات إلى المدينة.



وأثناء التجول في هذه الدار، تلفت الانتباه قاعة لقاءات مشتركة لكبار السن، وفيها تلفاز. كان بعض كبار السن يجلسون في القاعة المكيفة. وكانت سيدة محجبة تجلس إلى جانب عجوز تسعينية، فتذكر أنها لاجئة قدمت من العراق وتجيد الإسبانية، وهي اللغة التي يتحدث بها نزلاء دار المسنين، حيث تعمل فيها منذ ثلاث سنوات. وعما إذا كانوا حقاً يعيشون وضعاً جيداً، تقول بالعربية: "بحق، أقول لكم إنه حتى في سانتياغو، يصعب أن تجد داراً تحترم المسنين الذين تراهم. وبفضل التبرعات التي يقدمها عرب تشيلي، تعدّ الدار مقارنة بغيرها دار رفاهية. أرى الطعام الذي يقدم لهم والنظافة والاعتناء الجدي بهم وتلبية سريعة لما يطلبون. الموظفون محترفون ويتفهمون ظروف هؤلاء".
وعلى الرغم من أن النزلاء لا يتحدثون العربية، إلا أنه يمكنك ملاحظة أعلام لبنانية وفلسطينية وسورية تنتشر على نوافذ النزلاء، وتحمل الدور أسماء كبار المتبرعين وأسماء مدنهم العربية في الأصل. ويمكن ملاحظة لافتة على يمين المدخل الرئيسي للدار تحمل علماً تركياً. وتقول المديرة الإدارية ريما قحاط إن وكالة تيكا التركية (وكالة التعاون والتنسيق التركية) عرفت من خلال الإنترنت والسفارة التركية هنا في تشيلي أننا بصدد تجديد وإصلاح 20 منزلاً من منازل الدار، فقدمت تبرعاً بمائة ألف دولار في عام 2017 لإصلاح ثلاثة منازل، وهو مشروع سنباشر به العام الحالي 2020 حين يكتمل المبلغ.