عرب وأفارقة ينظفون باريس

عرب وأفارقة ينظفون باريس

31 مايو 2019
فرز نفايات في باريس (توماس سامسون/ فرانس برس)
+ الخط -

يشدد كثيرون على أن العاصمة الفرنسية، باريس، التي تستقبل أعداداً كبيرة من السائحين سنوياً مدينة جميلة ونظيفة. لكن، من يسهر على النظافة اليومية؟ هم عمال عرب وأفارقة يعانون استخفافاً كبيراً بهم.

تاريخياً، لم يلتفت كثير من الفرنسيين إلى جيش كامل من عمال النظافة من أصول أفريقية؛ سنغالية ومالية، وكذلك عربية. ولطالما اعتبروا هذه المهنة وضيعة. لكنّ الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، استقبل في شهر ديسمبر/ كانون الأول 1974، وقبيل أعياد الميلاد، ثلاثة من عمال القمامة الأفارقة؛ بمن فيهم اثنان من مالي، محمد تراوري وسينسي فافانو، وسنغالي اسمه سوي، في قصر الإليزيه، وتناول معهم الإفطار، وتعرّف منهم على أصولهم وظروف عملهم، وقدم لهم هدايا في نهاية اللقاء. لا يحضر الحاج عبد الرحمن، وهو سنغالي، صلاة الصبح في مسجد الحي المتواضع في مدينة مونتروي، وهو الإمام الرسمي للمسجد، إلا في ما ندر. يقول لـ"العربي الجديد" بتواضع يقترب من الاعتذار: "في الصباح الباكر، تحديداً في الخامسة صباحاً، أكون في سيارة جمع القمامة في شوارع باريس". حال عبد الرحمن هي حال كثيرين من دولتي مالي والسنغال، من الذين وصلوا إلى فرنسا في السبعينيات من القرن الماضي، فلم يجدوا عملاً لهم إلا في هذا القطاع، الذي كان الفرنسيون يرفضون الاقتراب منه.

تغيرت الظروف، بعض الشيء، فقد كانوا وعائلاتهم محط سخرية كبيرة من الناس، وأصبح سكان باريس، الآن، يعرفون العمل الضروري الذي يقومون به. ويتأكدون من هذه الحقيقة، خصوصاً حين يقوم عمال النظافة بإضراب عن العمل من أجل تحسين مستوى معيشتهم وظروف عملهم، فتتكدس القمامة، وتنتشر الروائح الكريهة، ومخاطر الأمراض، وتخرج الجرذان إلى الشوارع.




لا يقتصر الأمر على السخرية، بل أحياناً، كما يعترف عبد الرحمن: "يقترب منا أحد سكان الحيّ، ليلومنا على أنّنا لم نؤدِّ عملنا كما يجب. وتُشهر في وجوهنا، كلمة: أنا أدفع الضرائب، وأنتم لا تقومون بعملكم" لكنّه يعتبرها "تصرفات قلّما تقع لحسن الحظ". ولأنّه واعٍ بأنّ هذه المهنة، ليست كباقي المهن، أقنعت زوجته أبناءهما بألا يتحدثوا، في المدرسة، عن مهنة أبيهم، حتى لا يكونوا محط سخرية من أقرانهم، مع ما يمكن أن يتعرضوا له من تأثيرات نفسية.

وإذا كان كثيرون من هؤلاء الذين بدأوا عملهم في السبعينيات، قد ماتوا أو تقاعدوا، فالبعض منهم أقنع أبناءه، الذين لم يتابعوا دراساتهم ولم يحصلوا على شهادات جامعية، بمواصلة العمل في المهنة نفسها، على الرغم من صعوبتها، لأنّ العمال "معرضون للروائح العفنة في كلّ يوم، وكذلك الأمراض، وبعض رفاقي فقدوا حاسة الشمّ" يقول جواد القلعي، وهو عامل نظافة من أصول مغربية، لـ"العربي الجديد". يضيف أنّ عمال النظافة يعانون أيضاً من هزالة الرواتب الشهرية: "المبتدئ يحصل على 1500 يورو. وصديقي مامادو السنغالي، الذي يشتغل منذ 37 عاماً، لا يحصل سوى على 2200 يورو، أما المتقاعدون فمعظمهم لا يتجاوز معاشه التقاعدي 1300 يورو".



حين وصل هؤلاء الأفارقة إلى فرنسا، للعمل في قطاع النظافة كانت البلاد في عصرها الذهبي، أي ما سمي بـ"السنوات الثلاثين المجيدة" إذ كانت البطالة نادرة، وعجلة الإنتاج على أشدها، وهو ما كان يعني أنّ الفرنسيين كانوا يأنفون من العمل في مهنة النظافة. لكن، مع ظهور البطالة الواسعة، تغيرت العادات والمواقف، فبات الفرنسيون يتقاطرون عليها، وكذلك حال العمال من أصول مغاربية، الذين كانوا في بداياتهم، يشتغلون في المناجم وفي ورشات تشييد المترو، وفي سكك الحديد وبعضهم يعمل في الزراعة.

يعترف سعيد الريفي، وهو مغربي، في الخامسة والثلاثين، لـ"العربي الجديد" بأنّه تردد في قبول هذا العمل "خصوصاً، أنّني اعتدت على مهن لا تكشف صاحبها كما هي حال عامل النظافة. لكنّ الضرورة تفرض عليّ ذلك، فلديّ عائلة أعيلها، ولا تكفيني مساعدات الدولة، وهو ما جعلني أقبل بهذه المغامرة، بشرط أن يكون مكان عملي بعيداً عن الحي الذي أسكن فيه، فلا أحب أن يتعرف عليّ معارفي". من جهتها، يستحضر عبد الرحمن السنغالي، مثلاً فرنسياً شائعاً يقول: "لا توجد مهنة حقيرة". يعلق: "لكنّ الفرنسيين كانوا يعتبرون مهنة النظافة حقيرة، ولهذا لم يقتربوا منها في البداية. حتى جاءت الأزمة الاقتصادية، ففرضت على العاطلين من العمل فعل أي شيء يُقترَح عليهم".



على الرغم من أنّ جدوى هذه المهنة لا غُبار عليها، فقليل فقط من الفرنسيين يتحدثون، بإنصاف، عن تضحيات هؤلاء العمال. بل هم في المقابل، يتحدثون، بكثير من الصخب، عن جرذان شوهدت في مكان تكدست فيه القمامة، وعن أكياس قمامة تناساها العمال في زحمة عملهم، في هذا اليوم أو ذاك. وعلى الرغم من أنّ معظم هؤلاء العمال يؤكدون أنّهم يؤدون عملهم، بمهنية وإخلاص، لأنّهم يعرفون، فعلاً، أهميته وتأثيره على الصحة العامة، والمجتمع، فهم جميعاً يأملون، في المقابل، في رؤية تغيّرٍ في الصورة النمطية التي تطاردهم. يتساءل عبد الرحمن: "ما الفرق بين سعاة البريد ورجال المطافئ وعمال النظافة؟"، قبل أن يشرح بأنّ "كلّ هذه المهن صعبة، وفيها تضحية، لكنّ الفرنسيين، عموماً، يفضلون سعاة البريد ورجال المطافئ على عمال النظافة".

المساهمون