حياة للاستكمال

حياة للاستكمال

20 يوليو 2018
إنّها الحياة... (سجاد حسين/ فرانس برس)
+ الخط -


في تلك الغرفة، أربعة كراسٍ جلديّة مع أذرع ضخمة. على كلّ واحد من تلك الكراسي التي تبدو مريحة، تسترخي امرأة. هو ليس استرخاءً بمعنى أنهنّ في أحد صالونات التجميل أو المنتجعات الصحيّة أو غير ذلك. تلك الغرفة التي يشغلنها تقع في الطبقة الثالثة من أحد المراكز الاستشفائيّة في بيروت.

ستار أبيض يميل إلى البيج يفصل بين كرسيّ وآخر. في ذلك ضرورة للحفاظ على بعض من خصوصيّة كلّ واحدة من هؤلاء النساء. وسرعان ما تُزاح تلك السُتر لتبدأ دردشة. ستار واحد لم يُزح. المرأة التي تسترخي في ظلّه، يبدو كأنّها في حاجة إلى عزلة ما أو أنّها تتألّم أو لا ترغب في نسج أيّ علاقة اجتماعيّة. هذا حقّها. ويحترم الجميع قرارها الذي لم تبح به.

رأسها الحليق باستثناء بضع شعرات، يكشف عن إصابتها بالسرطان. اثنتان من النساء الثلاث اللواتي يشاركنها الغرفة، مصابتان كذلك بنوع من أنواع "هيداك المرض". أمّا الأخيرة، فلم تكن تتلقّى علاجاً كيميائياً مثلهنّ، وإنّما دواءً آخر لحالة غير خبيثة. عندما وصلت، ظننّها "واحدة منهنّ" وسألتها إحداهنّ عن علاجها. شعرت هي بالإحراج. البوح بأنّها ليست مصابة بالسرطان، كأنّما هو إقرار بأنّها أفضل حالا منهنّ. ارتبكت. واكتفت بالقول: "حديد". ربّما يكون مرضى السرطان في حاجة إلى جرعات إضافيّة من الحديد كذلك.

تغمض عينَيها لعلّها تنجو من استجواب محتمل يزيد إرباكها، في حين يدور حديث عن الحيوانات الأليفة وآخر عن فضائح تطاول عدداً من مطاعم بيروت وثالث عن زحمة السير الخانقة ورابع عن العائلة والأبناء وخامس عن داء السكّري وأمراض أخرى... مدّة العلاجات طويلة ولا بدّ من إشغال كلّ ذلك الوقت بما تَوفّر من مواضيع، من دون أن تنطق المرأتان المنخرطتان في الدردشة بكلمة واحدة حول السرطان. هما لا تتجنّبانه ولا تعانيان من حالة إنكار. هما تعيشان حياتَيهما. وهذا أمر واضح.



مَن يخلو من ذلك الخبيث، ربّما يظنّ أنّ حياة المصابين به تتوقّف عنده. هكذا نظنّ. كأنّما نحن راغبون في أن يكونوا ضعفاء لا بل عاجزين لنقدّم لهم بالتالي مساندة وشفقة. فكرة خبث ذلك المرض وفتكه ما زالت عقدة اجتماعيّة نتوارثها ونتشبّث بها، فلا نرى في هؤلاء الذين يعانون منه سوى أشخاص بائسين ضعفاء. فنرثي لحالهم، ونحن لا ندرك أنّنا نمضي في جذبهم أكثر نحو القعر.

تنتهي جلستا علاج المرأتَين اللتَين كانتا منخرطتَين في الدردشة. تودّعان بعضهما بعضاً. ربّما تلتقيان مجدداً وربّما لا تفعلان خلال جلسة مقبلة. إلى ذلك الحين، أو إلى حين آخر، لا شكّ في أنّهما سوف تستكملان حياتَيهما.