تونس تسرّح موظفيها العموميين

تونس تسرّح موظفيها العموميين

26 فبراير 2018
في إحدى الإدارات عمومية (العربي الجديد)
+ الخط -

يبدو أن إقفال باب الانتدابات في الوظيفة العمومية في تونس لم يساعد الحكومة على ضغط كلفة الأجور المرتفعة، خصوصاً مع تزايد عدد الموظفين في القطاع العام إلى نحو 650 ألف موظف، بعدما شهدت المؤسسات والإدارات العمومية بمعظمها انتدابات كبيرة، خلال السنوات الأخيرة.

وتسعى الحكومة التونسية إلى ضغط كتلة الأجور وترشيد الموارد البشرية والمالية، عبر تقليص الأعباء المالية المتعلقة بالموظفين العموميين، من خلال تسريح نحو 120 ألف موظف، قبل نهاية عام 2020، لا سيّما أنّ نسبة الأجور في الميزانية العمومية قاربت 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد التزمت الحكومة بخفض هذه النسبة إلى 12 في المائة، بحلول نهاية 2020، خصوصاً أنّ صندوق النقد الدولي قد اشترط سابقاً عليها تخفيض عدد العاملين في القطاع العام إلى 500 ألف موظف وما دون.

وانطلقت الحكومة لتبحث عن قانون ينظم مسألة تقليص عدد العمال وموظفي القطاع العام، فقدّمت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، مشروعاً إلى البرلمان يتعلّق بالتسريح الطوعي للموظفين، بعدما صادق عليه المجلس الوزاري، قبل شهر. وأتى ذلك على الرغم من رفض عدد كبير من النقابيين والسياسيين له، إذ عدّوه مجرّد استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي، ولم تُعتمد فيه إصلاحات فعلية للقطاع العام، إلى جانب غياب أيّ تصوّر واضح عن كيفية إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية. كذلك أثار المشروع جملة من الانتقادات حول تسبّبه في إفراغ الإدارة من الكفاءات.

ويشير الوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالإصلاحات الكبرى، توفيق الراجحي، لـ "العربي الجديد"، إلى أنّ "الإجراء المتعلّق بتسريح الموظفين هو إجراء مدروس، وقد جرت مناقشته مع الأطراف المتدخلة". ويوضح أنّ "المشروع يهدف في الأساس إلى القيام بإصلاحات جوهرية تتعلّق أساساً بضغط كتلة الأجور، والتشجيع على تأسيس المشاريع الخاصة، وإعادة توزيع أعوان الوظيفة العمومية"، مشدداً على أنّه "لا خوف من إفراغ المؤسسات العمومية من الكفاءات كما يرى البعض، خصوصاً أنّ اللّجنة برئاسة الحكومة المكلفة بموضوع خروج الموظفين سوف تتولى دراسة المطالب ومتابعتها بدقة، حتى لا يؤثّر الأمر على المرفق العام".


ضمّ المشروع الذي صادق عليه البرلمان، خلال يناير/كانون الثاني الماضي، تسعة فصول، أبرزها الفصل الأول الذي يضمن لـ"المرسّم في مؤسسات القطاع العام الراغب في الخروج الطوعي من الوظيفة العمومية، الحصول على منحة مغادرة تصرف دفعة واحدة، وتقدّر بـ 36 أجراً شهرياً صافياً". وقدّرت الحكومة عدد طالبي المغادرة الطوعية التي يبدأ العمل بها، في إبريل/نيسان المقبل، ما بين 10 آلاف و15 ألف موظف. كذلك توقّعت أن يقدّم نحو 10 آلاف موظف طلبات تقاعد مبكر، لكنّها لم تتلقَ إلا 6400 طلب فقط، على الرغم من مرور أكثر من شهرَين على مناقشة المشروع في الأوساط النقابية والسياسية. فغياب حملات التوعية التي توضح امتيازات البرنامج وأهدافه، لم يشجّع الموظفين على قبول الخروج الطوعي من العمل.

في السياق، يخبر الموظف محمد رحالي (45 عاماً) أنّه قضى أكثر من 15 عاماً في وظيفته وفكّر، مرّات عدّة، في تركها وتأسيس عمل خاص به، لكنّه تردد، أكثر من مرّة، مخافة فقدان وظيفته وصعوبة الوضع العام الذي لا يشجّع على الاستثمار الخاص. يضيف لـ "العربي الجديد" أنّه "اليوم، لم أستوعب ما تشجّع عليه الدولة من تسريح للموظفين في مقابل تقديم تسهيلات لمن يرغب في تأسيس مشاريع، لا سيّما أنّ الشباب العاطلين عن العمل يواجهون بمعظمهم صعوبات عدّة لتأسيس مشاريع ومواجهة البطالة". ويتابع رحالي أنّه سوف يخرج من الوظيفة "إذا تضمّن الأمر فعلاً تسهيلات وتشجيعات لتأسيس مشروع صغير".

إلى ذلك، قرّرت الحكومة، وللسنة الثانية على التوالي، التخلي في ميزانية الدولة لعام 2018 عن الانتدابات الجديدة في الوظيفة العمومية، مع عدم تعويض الشغور الناتج عن الإحالات والتقاعد، وذلك في مقابل تشجيع الشباب العاطلين عن العمل على تأسيس مشاريع خاصة، وتقديم قروض وتمويل من قبل البنك التونسي للتضامن. تجدر الإشارة إلى أنّ عدد العاطلين عن العمل في تونس يتخطى 650 ألف شخص، ما زال معظمهم يتشبثون بحقهم في الانتداب والوظيفة العمومية، على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد. أمّا آخرون، فهم مقتنعون بأنّ العمل في القطاع الخاص وتأسيس مشاريع خاصة قد يحلان مشكلة البطالة، خصوصاً مع تعدّد الجهات المانحة للقروض الصغرى الخاصة بتمويل المشاريع.

لكنّ ذلك التشجيع لم يخفِ ما يضطر الشباب إلى مواجهته من تعقيدات إدارية وما إليها، إذ إنّ مدّة الحصول على قرض قد تصل إلى أكثر من سنة ونصف السنة، بالإضافة إلى التكوين (التدريب) الخاص، وفقاً لطبيعة المشروع الذي يريد الشاب تأسيسه، حتى وإن كان صاحب شهادة عليا. ويخبر سفيان بن معز "العربي الجديد" أنّه يحاول "منذ أكثر من سنتَين الحصول على قرض لتأسيس مشروع زراعي. طُلب منّي في البداية عقد إيجار أرض فلاحية، الأمر الذي يستوجب مبلغاً يصل إلى 10 آلاف دولار أميركي. لو كنت أملك ذلك المبلغ، لما طلبت قرضاً مصرفياً". من جهته، يحاول عمر، منذ أكثر من سنة، الحصول على تمويل لتأسيس مشروع فلاحي في مجال تربية الماشية. يقول لـ "العربي الجديد": "طُلِب منّي شهادة تكوين في تربية الماشية، في حين لا تتوفّر مراكز في هذا المجال". ولا تختلف تجربة درة بلقروي كثيراً عمّا خبره الشابان، فهي طلبت الحصول على تمويل لتأسيس مشروع تجاري، لكنّ طلبها رُفض، بحسب ما تقول لـ "العربي الجديد"، بدعوى "عدم إمكانية تمويل المشاريع التجارية. وذلك على الرغم من تقديمي أكثر من فكرة، ومتابعتي تكويناً خاصاً بالمشاريع الصغرى". تضيف: "يبدو أنّ التشجيع الحكومي لم يتجاوز المنابر الإعلامية".


آلاف من الشباب التونسيين يسعون إلى مقاومة البطالة، من خلال التقدّم بمشاريع إلى الجهات المعنية، بغية الحصول على دعم وموافقة، لكن من دون جدوى. واليوم، يواجه هؤلاء العاطلون من العمل منافسة جديدة، مع خروج الموظفين العموميين الراغبين كذلك في تأسيس مشاريع خاصة، من وظائفهم. والأولوية، بحسب المراقبين، سوف تكون لهؤلاء الأخيرين، نظراً إلى التجربة التي يتمتّعون بها والتسهيلات التي سوف تقدَّم لهم، في مقابل خروجهم من الوظيفة.