رصاصة محمود

رصاصة محمود

19 يونيو 2017
من أعمال الرسام محمود مجدل
+ الخط -

مضت أيام عديدة منذ أن سمعتُ بالخبر المؤلم والموجع، غير مصدّقٍ، ورأيتُ من جديد صورته الهادئة وابتسامته التي تكاد تكون مزيجاً من الصمت والخجل، وتحمل ملامح وداعٍ مفاجئٍ. وداع من لا يرغب في قول شيء لأحد: لقد قُتل محمود!

كان محمود مجدل رساماً، وكان في قلبه كيانٌ متوارٍ لشاعرٍ كتوم، كما أنه كان مغنياً ذا صوت عذب دافئ تميّزَ بنبرة عميقة خفيضة. كما عرفتُ في ما بعد أنه كان يكتب. كان بإمكان محمود البقاء في بيروت، وعدم العودة إلى دمشق حيث كان يقيم ويقوم بتدريس أطفال نازحين مخففاً عنهم هول ما عانوه.

لقد زار محمود بيروت مرتين من قبل، وأقام فترة قصيرة في دار إقامةٍ فنيةٍ حيث رسم لوحات غامضة كبيرة الحجم، تظهر ملامح وجهٍ على وشك التشكل، غير أنه وجه مخفي، مؤجل، ناقص، لكنه وجه يراقب وينادي من خلف ألوان صفراء وسوداء. حدثني محمود كثيراً عن الشجر، عن أوراق الشجر وعن ارتجافها الصغير الناعم في ضوء الصباح. كان يغرق في ما يتحدث عنه، كما لو أن كيانه كله قد غدا جزءاً مما يرى ويحس. ألذلك كانت لوحته أيضاً غارقة في سديم رؤياه. هل كان غامضاً بسبب حدة الصفاء تلك، أم أنه لم يصل إلى ما كان يتمناه في الرسم؟

ما زلتُ غير مصدّق لما حدث. على حاجز لمليشيا النظام السوري يجري توقيف محمود واعتقاله منذ أكثر من سنة، ثم يُجبر على أداء "خدمة العَلَم" التي هي في حقيقتها خدمة للقتل والدفاع عن القتلة. يُنقل محمود إلى مواقع الحرب المتنقلة في حلب وريفها، ثم يُصاب هناك، ويتلقى الأصدقاء خبر مقتله!

ترك محمود لي هدية ثمينة: لوحة صغيرة بقلم الرصاص. اللوحة عبارة عن شجرة لا غير. لكنها جميلة جداً، وتكاد تكون رمزاً لكل شجرة ربما. إنها شجرة حيادية، شجرة يحلم المرء أن يراها في مناماته، ربما لأنها نائية ووحيدة، وممتلئة بكيانها وروحها من دون ثقل أو شعار أو قناع. إنها في ذروة حياتها الأصلية والأساسية والبريئة من كل ما هو زائد عليها.

رسمها محمود بمادة بسيطة، بقلم من رصاص. كانت تلك رصاصته الوحيدة، وبها سدد ما في عينيه وروحه إلى وجه العالم وقلبه. رصاصتك هذه يا محمود لن تحرق ولن تحترق، لن تنفد ولن تحطم ولن تدمر. رصاصتك هذه هي شجرتك، حلمك، بيتك الأخير، لأنها أيضاً بيت الصداقة الذي بلا أبواب وبلا قيود وبلا أقفال.

لا أدري لم اخترت هذه اللوحة، ولا أتذكر تماماً كيف حدث الأمر. لكنها الآن هنا في المكان الذي يجب أن تخلد فيه، في ذاكرة خضراء.


المساهمون