أورتوركسيا... هذا الهوس بالطعام الصحي

أورتوركسيا... هذا الهوس بالطعام الصحي

06 نوفمبر 2017
طعام "موثوق به" (برتران غواي/ فرانس برس)
+ الخط -

الخوف من المرض، لا سيّما "التسمّم" من بعض مواد تتضمّنها أغذية بحدّ ذاتها، يدفع بعضنا في اتجاه "الأورتوركسيا". والمصطلح المشتقّ من اليونانيّة يعني "أورتوس" صحيح و"أوركسيس" شهيّة.

تكثر النصائح التي تقول بضرورة التحوّل إلى "الطعام الصحيّ"، والهدف "سلامتنا". كثيرون منّا يسعون إلى تطبيق تلك النصائح. ثمّة من يفشل، تماماً مثلما نخفق - بمعظمنا - في تلك الحميات الغذائيّة المنحّفة التي نصرّ على الانطلاق بها أو استئنافها في "بداية الأسبوع التالي". وثمّة من يفلح، إنّما مع مبالغة كبرى. مبالغة دفعت أهل الاختصاص إلى التسليم بأنّ ثمّة اضطراباً غذائياً جديداً وهو "الهوس بالطعام الصحيّ" الذي اصطلحوا على تسميته "أورتوركسيا".

يُدرَج ذلك الهوس على قائمة اضطرابات السلوك الغذائيّ التي تهدّد صحّتنا بطريقة أو بأخرى. يُذكر أنّ تلك الاضطرابات لطالما قُسمت إلى اثنَين، القهم العصبيّ أو "أنوركسيا" والشراهة العصبيّة أو "بوليميا". لكنّ ثمّة أنواع أخرى راحت تُضاف إليها تباعاً من قبيل اضطراب نهم الطعام أو "بينج إيتينغ" وغيره.

خالٍ من الغلوتين

في بلداننا العربيّة، تروج في السنوات الأخيرة صرعة الطعام الخالي من الغلوتين، على سبيل المثال لا الحصر. كرمى وهي امرأة أربعينيّة، من هؤلاء الذين لم يخضعوا في يوم لتحاليل خاصة بهدف تشخيص حساسيّة ما على الغلوتين، لكنّها كلّما شعرت بتلبّك في جهازها الهضميّ، تلجأ إلى نظام غذائيّ خالٍ من تلك المادة البروتينيّة التي يحتويها دقيق القمح. وتتخلّص من كلّ المأكولات التي قد تحتويها، فتقصد أحد محال الأطعمة الصحيّة وتشتري المعكرونة الخالية من الغلوتين وكذلك الحلوى والكعك والخبز وغيرها من الأصناف التي دُمغت بعلامة "غلوتين فري". صحيح أنّ فاتورتها تلك قد تضرّ بميزانيّتها الشهريّة، غير أنّ "الأمر يستحقّ العناء. عندما أتناول تلك المنتجات، أشعر بأنّني أخفّ. ليس هدفي خسارة الوزن، بل عدم الشعور بتلك النفخة".

مهلاً. مرض "سيلياك" أو حساسيّة القمح هو واحد من أمراض المناعة الذاتيّة، وهو الحالة الوحيدة التي تستوجب الامتناع عن تناول المأكولات التي تحتوي على الغلوتين، حتى لا يطوّر من يعاني منها مشكلات صحيّة عدّة من قبيل فقر الدم وبعض أمراض القلب والشرايين. حتى يومنا، لم تُثبت أيّ دراسات طبيّة فائدة ذلك النوع من المأكولات في ظروف أخرى. بخلاف ذلك، فإنّ استهلاكها - وللأسف - يحرم الجسم من مغذيّات كثيرة، فيؤذي أكثر ممّا يجدي نفعاً، وينصح بالتالي أهل الاختصاص بالامتناع عنه، إذ إنّ مستهلكي تلك "المأكولات الصحيّة" قد يطوّرون أمراض القلب والشرايين نفسها، المشار إليها آنفاً.

ويحذّر في السياق الطبيب الفرنسي المتخصّص في التغذية، الدكتور لوران شوفالييه، من أنّ الأشخاص الذين يمتنعون عن فئة معيّنة من الأطعمة مع تلك الحميات المقيّدة التي يعتمدونها عشوائياً، يعجزون بالتالي عن تزويد أجسامهم بما تحتاج من عناصر غذائيّة. ويشير إلى أنّ الذين يتّجهون إلى اعتماد نظام غذائيّ خالٍ من الغلوتين، غالباً ما يمتنعون عن تناول اللحوم والمنتجات اللبنيّة. فيشدّد بالتالي على ضرورة التنبّه إلى تلك الظواهر التي من شأنها تهديد التوازن الغذائيّ.

عجينة لا تحوي "سموماً" (دوني شارليه/ فرانس برس)


خلل واضطراب

تلك الحميات بحسب ما تؤكّد المتخصّصة في علم النفس الاجتماعيّ، مايا متّى، "إلى جانب ضررها الصحّي إذ تجعل التوازن الغذائيّ يختلّ، فإنّها تضرّ كذلك بتقاليدنا الغذائيّة وبهويّتنا الثقافيّة. بعض الأطباق قد تندثر من مطابخنا في نهاية الأمر". وتعطي مثالاً على ذلك "حبوب كينُوا التي راح كثيرون يستبدلون البرغل - حبوب الحنطة المجروشة - بها، على أساس أنّها صحيّة في حين أنّ الأخير والذي يتميّز به المطبخ اللبنانيّ والسوريّ والتركيّ ليس كذلك، بحسب ظنّهم".

بعيداً على الغلوتين، تشير متّى إلى أنّ "هؤلاء المصابين بالأورتوركسيا، تماماً كغيرهم من الأشخاص المصابين باضطرابات أخرى في السلوك الغذائيّ، ينغّصون حياتهم - وحياة أولادهم في حال كانوا أرباب أو ربّات عائلات - ويوميّاتهم. فالواحد من هؤلاء قد يمضي وقته بمعظمه وهو يقرأ الرقع على المنتجات الغذائيّة للتأكّد من خلوّها من أيّ مكوّن قد يؤذي صحّته أو قد يشكّ في أنّه كذلك، ويعيد قراءتها مرّات ومرّات. وينتابه الشكّ، فيرفض تناول أطعمة لم يحضّرها هو بيدَيه في أكثر الأحيان. ويتردّد كثيراً قبل تناول فواكه وخضار لم يغسلها بالخلّ والملح على سبيل المثال، ويمتنع كلياً عن شرب العصير الذي أعدّه هو بعد ربع ساعة إذ إنّه يخسر الفيتامينات خلال ذلك الوقت. ونادراً ما يقبل دعوة على غداء أو عشاء في مطعم". تضيف: "ولأنّ هذه الحالة تُعَدّ هوساً، فإنّ مزاج من يعاني منها قد يكون غير متّزن في أحيان كثيرة. وهو قد يأتي بأفعال مبالغ فيها، ويروّج مثلاً لوجهة نظره بحماسة مفرطة. كذلك، فإنّه قد يقضي ساعات يومياً وهو يفكّر بالغذاء وبما يتناوله الآخرون. ويقلق إذ يشعر بأنّ من واجبه أن يخلّصهم من عاداتهم السيّئة. في السياق نفسه، يعمد إلى التخطيط مسبقاً لوجباته".

وتتابع متّى أنّه "في حين يفكّر من يعاني من الشراهة العصبيّة (بوليميا) بكميّة الطعام، فإنّ الذي يعاني من هوس الطعام الصحيّ (أورتوركسيا) يفكّر بنوعيّته. ويستبعد على سبيل المثال كلّ ما يحوي دهوناً، وإن كانت من الدهون الجيّدة الضروريّة لجسم الإنسان. وتلقائياً، يُسقط من حساباته كلّ ما يحوي سكّراً أو لاكتوز أو مواد حافظة أو ملوّنات. بالنسبة إليه، في إمكانها أن تؤدّي إلى وفاته".

ولعلّ الأسوأ من كلّ ذلك هو فقدان لذّة الطعام وتشاركه مع الآخرين وانعدام المخالطة الاجتماعيّة، إذ إنّ هؤلاء لا يتناولون الطعام نفسه الذي يتناوله سواهم، وأكثر من ذلك فإنّهم يشعرون بأنّ هؤلاء "يتجرّعون السموم".

خالية من الغلوتين... ومضمونة (مارينا إيلي/ فرانس برس)


فوبيا وكمال غذائي

وتلفت متّى إلى أنّ "ثمّة من يتحدّث عن فوبيا (رهاب) في هذا السياق. والأمور تتّجه نحو الأسوأ، عندما يشعر الشخص بأنّه مذنب بسبب خياراته الغذائيّة السيّئة، ويستبعد مجموعات أساسيّة من الأغذية فيحرم نفسه من المغذّيات، ويبدأ الطعام بالسيطرة عليه، وينتقد خيارات الآخرين الغذائيّة. يُذكر أنّ الأمر قد يترافق مع أعراض الاكتئاب، في حين يعمد المصاب بذلك الاضطراب إلى شيطنة بعض الأغذية. فهو في بحث دائماً عن الكمال الغذائيّ".

وإذ توضح متّى أنّ "النساء والرياضيّين هم أكثر الذين يعانون من الأورتوركسيا الذي لا يصيب إلا البالغين"، تقول إنّه "في حال سُجّل ذلك الاضطراب لدى مراهقين، فإنّه ولا شكّ دليل على اضطراب غذائيّ آخر، إمّا البوليميا أو الأنوركسيا. بالتالي، لا بدّ من أن يتنبّه الأهل لذلك سريعاً".

وسط الإعلانات التي تكثر والنصائح القائلة بالغذاء الصحيّ، من غير المستبعد أن نجد أشخاصاً يعانون من الأورتوركسيا. وهؤلاء بحسب متّى "معرّضون لذلك نتيجة حساسيّة نفسيّة لديهم ومشكلة في تقدير ذواتهم، وبالتالي هم في حاجة إلى مساعدة من قبل اختصاصيّ نفسيّ، وفي بعض الأحيان من قبل طبيب نفسيّ، تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى هؤلاء الذين يعانون من القهم العصبيّ أو الشراهة العصبيّة أو غيرهما من اضطرابات السلوك الغذائيّ". وتشدّد على أنّ "الحريصين على نوعيّة غذائهم لا يعانون جميعهم من هوس الطعام الصحيّ".

لا شكّ في أنّ اعتماد نظام غذائيّ صحيّ هو أمر محمود، ولسنا هنا في وارد ذمّه، لكنّ التحذير واجب من المبالغة في الأمر. وقد يكون من المفيد هنا طرح بعض الأسئلة: هل تُمضي ساعات وأنت تفكّر في "نظام غذائيّ صحيّ"؟ هل تشعر بأنّ "القيمة الغذائيّة" لما تتناوله أكثر أهميّة بالنسبة إليك من لذّة تذوّقه؟ هل أصبحت أخيراً أكثر تطلّباً مع نفسك؟ هل تشعر بالذنب في حال ابتعدت قليلاً عن النظام الغذائيّ الذي فرضته على نفسك؟ هل تخلّيت عن بعض الأطعمة التي تحبّها، لصالح أطعمة أخرى "سليمة"؟ هل نظامك الغذائيّ يعيق تحرّكاتك ونشاطاتك المشتركة مع الأصدقاء والأهل؟ هل تشعر بسلام مع نفسك وبأنّك تسيطر جيداً على ما تتناوله؟ هي بعض أسئلة من ضمن اختبار وضعه الطبيب الأميركيّ المتخصّص بالأمراض النفسيّة والعقليّة الدكتور ستيف براتمان، وهو أوّل من قال باضطراب "أورتوركسيا" في عام 1997.

المساهمون