هجوم أورلاندو يُشعل معركة رجال الدين المسيحيين على المثليين

هجوم أورلاندو يُشعل معركة رجال الدين المسيحيين على المثليين

واشنطن

منير الماوري

avata
منير الماوري
22 يونيو 2016
+ الخط -

أسفر استهداف المثليين في هجوم أورلاندو وما نجم عنه من "تشفّي" بعض رجال الدين الأميركيين، عن إشعال مواجهة ظلت مكتومة زمناً بين المدافعين عن المثليّة من جهة، وخصومهم من جهة أخرى. وعلى رأس الخصوم، قساوسة وفقهاء وحاخامات، لم تجمع بينهم حوارات الأديان، مثلما جمع بينهم هجوم أورلاندو.

ورغم أنّ رجال الدين الأميركيين لجأوا بأغلبيتهم إلى الصمت إيثاراً للسلامة وإدراكاً منهم لحساسية القضية، إلا أنّ ما أبداه آخرون من بهجة بالحدث أثار ردود فعل ساخطة من قبل منظمات تُعنى بشؤون المثليين وأخرى حقوقية، إلى جانب مرشّحين للرئاسة الأميركية ورموز إعلامية وسياسية من قادة الرأي في المجتمع الأميركي.

وتتصاعد المواجهة مذ أبدى أحد القساوسة أسفه لأنّ الهجوم لم يقتل إلا خمسين شخصاً من المثليين، الأمر الذي أثار جدالاً على نطاق الولايات المتحدة بأكملها، فيما راح رجال دين معتدلون يحاولون التهدئة من خلال انتقاد طريقة القتل في هجوم أورلاندو. لكنّهم تمسّكوا بقناعتهم التي عبّروا عنها بشكل أو بآخر، والقائلة إن "شريحة المثليين تستحق الإعدام". فكان موقفهم هذا وقوداً إضافياً لتأجيج غضب الطرف الآخر.

بداية المواجهة

انطلقت المواجهة من مدينة ساكرامنتو، عاصمة كاليفورنيا، الولاية الأكثر ليبرالية من بين الولايات الأميركية، عندما وقف القسّ روجر خيمينيز في "كنيسة فيرتي المعمدانية" وألقى خطبة حماسية على مدى ثلاثة أرباع الساعة كرّسها للحديث عن المثليّة وموقف الكتاب المقدّس منها. أثارت الخطبة جدالاً واسعاً، إذ إنّه أشاد فيها بالمجزرة الوحشية معلناً رفضه الحداد على الضحايا. وجاء في خطبته "ليست مأساة أن يقتل 50 من المثليين بل المأساة أن كثيراً منهم لم يموتوا". أضاف: "من يسألني هل أنا حزين لموت هؤلاء، كمن يسألني هل أحزن لقتل العدد نفسه من المعتدين جنسياً على الأطفال". بالنسبة إليه، سوف تكون مدينة أورلاندو في ولاية فلوريدا "أكثر أماناً"، وما حدث لهم هو "أمر عظيم سوف يخدم المجتمع".


هذه الخطبة الدينية أثارت جدالاً واسعاً حول موقف الأديان السماوية من قضية المثليين، كذلك أثارت ردود فعل غاضبة من قبل منظمات حقوقية وناشطين في الدفاع عن المثليين، وحتى من بعض رجال الدين المعتدلين. وقد أجمع الغاضبون على أنّ ما قاله القسّ خيمينيز "تعصّب أعمى". ووصفت منظمة "حقوق الإنسان" (شمال كاليفورنيا) ما ورد في خطبته، بأنه "تحريض بغيض على الكراهية من على منبر ديني". ورأت أنّ ما ورد في الخطبة مسيء للناجين من مذبحة أورلاندو، ومسيء لأقارب الضحايا وأصدقائهم.

إلى ذلك، نشرت صحيفة "ساكرامنتو بي" مقالاً للكاتب الأميركي اللاتيني ماركوس برايتون، دان فيه كل ما ورد في الخطبة، مشدداً على أن الدين المسيحي يرفض إزهاق الأرواح تحت أيّ مبرر. يُذكر أنّ الكنيسة المعمدانية فيرتي تعدّ المثلية "خطيئة ورجساً يعاقب مرتكبها بالإعدام"، لهذا "لا تسمح للمثليين بالانضمام إليها".


في السياق، حذف موقع "يوتيوب" تسجيل الخطبة التي كانت كنيسة فيرتي المعمدانية قد حمّلته تحت عنوان "الردّ المسيحي على مذبحة أورلاندو". أمّا المبرّر فهو أنّ محتوى الخطبة ينتهك سياسة الموقع المتعلّقة بنبذ التحريض على الكراهية. لكنّ مستخدمين آخرين عادوا ليحمّلوا الخطبة نفسها على "يوتيوب".
وفي وقت لاحق، أبلغ خيمينيز "ساكرامنتو بي" أنّه تلقى "تهديدات عديدة" عقب تناقل محتوى الخطبة واحتدام الجدال حولها، مشيراً إلى أنّ المتّفقين معه أكثر من الغاضبين. وشكا خيمينيز، وهو من أصول فنزويلية، من أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تتقبّل أيّ رأي مخالف. لكنّه رأى أنّ المسلّح الذي تولى قتل أولئك الناس يستحقّ الموت لأنه قاتل، ولا ينبغي الحداد عليه أيضاً.

أعرب بعض المعتدلين من رجال الدين المسيحيين عن رفضهم لما جاء على لسان خيمينيز، قائلين إنّ ما حدث في أورلاندو من قتل وحشي لا يمكن تبريره بردّه إلى مشيئة الله. ورأى هؤلاء أنّ التطرّف نحو العنف لا يمكن أن يجابَه إلا بتطرّف في المحبة. ويعبّر عن هذا الرأي رئيس المؤتمر الوطني للقيادات المسيحية اللاتينية القسّ صموئيل رودريغ، في تغريدات على موقع "تويتر"، كتب: "إننا كمسيحيين، يجب أن نحب الجميع.. يجب أن نرفض التعصب والكراهية ونرفض تبريرهما".

أمّا القسّ ستيفن أندرسون، وهو أيضاً من رجال الكنيسة المعمدانية، فقد كان من بين المحتفين، وقال في تصريحات صادمة: "لن أبكي على قتلى كانوا أصلاً في طريقهم إلى الموت بالإيدز أو الزهري أو أي مرض آخر". وأضاف أنّ "هؤلاء لا يستخدمون كوسيلة للتحريض ضد المسلمين فقط، وإنّما أيضاً ضدنا نحن المسيحيين".

وجاء في محاضرة لأندرسون محمّلة على "يوتيوب": "لا أعتقد أنّ علينا تنفيذ أحكام الإعدام بأيدينا. فأنا لن أذهب إلى أي حانة لإطلاق النار على مثليين. علينا أن نطيع قانون الأرض ونحترم تعاليم السماء". ويرى أنّ ضحايا أورلاندو "كان يجب أن يحاكموا من قبل حكومة يمينية رشيدة وأن يدانوا ثم يعدموا، لا أن يُترَك الأمر لأفراد لينفّذوا قوانين السماء بأنفسهم، إلى أيّ ديانة انتموا".

ورداً على ما ورد، أعرب ممثل "تحالف منع العنف والكراهية" ساندرز نيلسون، عن ذهوله من هذه الآراء التي "يعتقد أصحابها بأنهم ناطقون باسم الله". وقال لمحطة "سي بي إس نيوز" إنّ "هذه آراء مدمرة، ويمكن أن تلحق مزيداً من الضرر بالشباب المثليين. فهي تمثل تحريضاً على قتلهم وربما تتسبب في ارتفاع معدلات الانتحار بين من لم يُقتل منهم".
من جهته، رأى عمدة ساكرامنتو، كيفن جونسون، أنّ "أصحاب الآراء المتشددة من رجال الدين لا يعكسون القيم المسيحية وليس لديهم الحق للحديث باسم أي ديانة". أمّا أوستن وبستر، عضو هيئة التدريس في جامعة كاليفورنيا، فقد طالب القسّ خيمينيز بالتنحي عن منصبه في كنيسة فيرتي المعمدانية والعودة إلى تعلّم الكتاب المقدس والاستغفار.  


كذلك، شارك المبشّر المسيحي بات روبرتسون في السجال، عبر برنامجه الشهير "نادي 700"، متهكماً على التيار الليبرالي الأميركي، إذ قال: "هذا التيار وقع بين مطرقة التطرّف الإسلامي وسندان المثليين". لكنّ الواقع غير ذلك، إذ يشير إلى أنّ المثليين أنفسهم هم الواقعون بين مطرقة التشدد المسيحي وسندان التطرف الإسلامي. ومن اللافت أنّ هجوم أورلاندو ساهم في إبراز ما يعتبره البعض "العداء المشترك" للمثليين من قبل التيارين المتشددين المسيحي والإسلامي.


ومثلما يختلف رجال الدين المسيحيون الأميركيون في نظرتهم إلى المثلية، كذلك الأمر بالنسبة إلى علماء المسلمين الذين تتفاوت آراؤهم بين إصدار فتاوى الإعدام بحقّ المثليين وبين عقد بعض منهم زيجات بين هؤلاء.

أمّا حاخامات اليهود فهم جميعاً يحرّمون ما يسمّونه بالعلاقات غير السويّة، غير أنّ عدداً منهم يشدّد في الوقت نفسه على رفض الاعتداء على المثليين ويتقبّل وجودهم اجتماعياً لا دينياً. ويبقى الأرثوذكس اليهود الأكثر ميلاً إلى التشدّد مع هذه الفئة، بالمقارنة مع التيارات الإصلاحية والمحافظة لباقي رجال الدين اليهود.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ المحكمة الأميركية العليا هي المؤسسة ذات التأثير المباشر الأقوى على الإطلاق، في رسم مستقبل الحقوق والحريات والفصل في الخلافات المجتمعية التي يكثر فيها التجاذب بين تيارين تشريعيين متنافسين هما التيار الليبرالي والتيار المحافظ. فإذا ما كان الرئيس المقبل جمهورياً، من غير المستبعد إلغاء زواج المثليين ورفض أي قيود على حمل السلاح وربما تجريم الإجهاض وغير ذلك. فهو سوف يختار من دون شكّ قضاة من ذوي التوجه المحافظ، في حين أن أيّ رئيس ديمقراطي سوف يختار قضاة من التيار الليبرالي إذا نجح الديمقراطيون في تمرير المصادقة عليهم في مجلس الشيوخ. وهذا ما يعني أنّ مستقبل حقوق المثليين سيكون مبشّراً لهم.

وكان رفع تجريم المثلية الجنسية قد بدأ تدريجياً منذ منتصف القرن الماضي. وفيما لم تعد مدرجة على قائمة الأمراض النفسية في الولايات المتحدة، نمت حركة مطالبة بمنح المثليين حقوقاً لم تكن قانونية في ما مضى، مثل حق الزواج والتبني والخدمة العسكرية والعناية الطبية. كذلك، سُنّت تشريعات لحمايتهم. ولم تقرّ المحكمة الأميركية العليا الزواج المثلي إلا قبل أشهر قليلة. لكنّ المعارضة المجتمعية لهذا النوع من الزواج ما زالت قوية، على الرغم من دعم معظم مرشحي الرئاسة لحقوقهم، بمن فيهم المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي سارع إلى التنديد بهجوم أورلاندو وتعهّد بتوفير الحماية لفئة المثليين في حال وصوله إلى سدّة الرئاسة.