عندما يتأخّر الصباح

عندما يتأخّر الصباح

06 نوفمبر 2016
ما قبل شروق الشمس (حسين بيضون)
+ الخط -

قبل زمن يُحتسب بالسنوات لا العقود، كانت المدينة بأهلها تصحو وقد بدأت الشمس تشقّ الدجى. كان الجميع يحرص على الاستفادة قدر مستطاعه من نهار سرعان ما يأفل.

الرابعة والنصف صباحاً. ما زال الظلام يخيّم على الحيّ وعلى المنطقة بأكملها. تفتح أم فوّاز باب الفرن قبل أن يتبعها ابنها الأصغر. يفرغ هيثم الطحين من شوال الخيش في جرن العجّانة، فيما تضيف هي الماء وقليلاً من الخميرة والملح. تنتظر أن تنهي الآلة من دورانها، قبل أن تضع غطاءً أبيضَ نظيفاً فوق الجرن الكبير.

تعود إلى منزلها الملاصق لذلك الفرن الصغير الذي ورثته عن والدها، ريثما "يطلع العجين". تعدّ القهوة. لا يمكنها استهلال يومها من دون جرعات البنّ المركّزة. وتتوجّه إلى دكّان أبو حبيب في الجهة المقابلة من الحيّ. هناك تدردش مع "جار الرضا" كما تسمّيه منذ عقود، في انتظار أبو عادل. خضار الأخير هي الأفضل، ومنها تختار "زهرة" ما قطفه من بستانه هذا الصباح. تشتري البصل والبندورة لتعدّ خلطتها الخاصة باللحم بالعجين، وكذلك الخيار والليمون الحامض وباقات النعناع الأخضر والبقدونس والبقلة التي ما زالت وريقاتها مندّاة.

تجمع أم فوّاز أكياسها وتعود إلى فرنها الصغير في ذلك الحيّ الشعبيّ. تعدّ خلطات مناقيشها، باختلاف أنواعها. الزعتر، والزعتر مع البندورة والبصل، والجبنة، والجبنة مع البصل والبقدونس، والكشك، بالإضافة إلى اللحم بالعجين وغيرها. تنظر إلى الساعة المعلّقة على الحائط فوق البرّاد. إنّها الخامسة والنصف. تضيء لافتة الفرن. أصبحت الآن جاهزة لاستقبال الزبائن.

كان ذلك قبل نحو عشر سنوات. "اليوم، كلّ شيء تغيّر". المرأة التي اقتربت من ثمانينها، حاسمة في ذلك. "حتى الناس تغيّروا. لم تعد تعجبهم منقوشتنا. يريدون المنقوشة المجلّدة. بالله عليك، هذه عجينة وتلك عجينة؟". أم فوّاز حانقة على تلك الأفران التي تفتح فروعاً لها في كلّ مكان، وتستقبل زبائنها على مدار الساعة. "هي في الأساس، ليست أفران مناقيش. تعدّت على مصلحتنا. حتى خبزها لا يؤكل. كلّه يُحضَّر مسبقاً ويُجلّد في الثلاجات، ليكون جاهزاً عند الطلب". تأخذ نفساً عميقاً.. "هل يعلم هؤلاء الشباب ماذا يأكلون؟ تعجبهم تلك اللافتات الكبيرة والأسماء الأجنبيّة. نحن نختار أجود المواد. برحمة أبو فوّاز، لا أقدّم للزبون إلا ما أضعه على مائدتي".




في زمن ليس ببعيد، كانت أحياء المدينة تصحو مع أمّ فوّاز وأبو حبيب وغيرهما من أصحاب الدكاكين والمحال الصغيرة. كان ذلك قبل نحو عقد أو يزيد. اليوم، اختلف التوقيت. لم تعد أم فوّاز تستيقظ فجراً لتحضّر عجينها. تتذكّر أبو فوّاز. "كان الله يرحمه يغنّي لي عندما أبدأ بالعجن". وتدندن "الحلوة دي قامت تعجن في البدريّة.. والديك بْيِندَه كوكوكوكو بالفجريّة..."، فيما تضحك وقد احمرّت وجنتاها، قبل أن تنفض الدقيق الأبيض الذي علق على مئزرها الأسود. مذ توفّي أبو فوّاز قبل 23 عاماً، لم تخلع ثياب الحداد. حتى مئزرها أسود اللون. كانت تحبّه حبّاً جماً. لم ترضَ بها عائلته، فاحتضنه والدها وأورثهما الفرن حتى يعتاشا منه.

اليوم، اختلف التوقيت. لم تعد أم فوّاز تضيء لافتة فرنها الصغير، إلا وقد أشارت عقارب ساعتها المعلّقة على الحائط فوق البراد، إلى السادسة والنصف صباحاً وأحياناً إلى السابعة. لا فائدة من النهوض باكراً. "نحن عجّزنا، وهؤلاء ينافسوننا في عجيننا. لكن في النهاية، كلّ ينال رزقه". ترحّب بجاد. هو زبون دائم. لا يحبّ "إلا مناقيش أم فوّاز". هو اعتاد عليها مذ كان طفلاً صغيراً ترسله والدته لصنعها في أيام العطل المدرسيّة، فيساعد الخالة في مدّ الزعتر على العجين الذي ينقشه بأصابعه. كان يفخر بذلك، قبل أن يعود حاملاً علبة الكرتون التي رُصفت فيها الأرغفة المدوّرة الساخنة.

بدوره، لم يعد أبو حبيب - جار الرضا - يفتح أبواب دكّانه عند الفجر. لا حاجة إلى ذلك. "أبو عادل، رفيق الصبحيّات، سبقني إلى دنيا الحقّ. وتاجر الخضار الذي أتعامل معه في الفترة الأخيرة، لا يسلّمني البضاعة إلا عند الثامنة صباحاً. وأحياناً يتأخّر، معللاً ذلك بزحمة السير. الحجّة جاهزة دائماً لديه". أيضاً، الجارة أم فوّاز، لم تعد تنطلق باكراً في يومها. "هرمنا!".

تدخل ميرا إلى الدكان الصغير، وتبدأ بمعاتبة أبو حبيب بودّ اعتاده. "أخّرتني عن الشغل!". يضحك، وهو يحاول عقد حاجبَيه الأبيضَين. "هل تستكثرين عليّ نصف ساعة نوم إضافيّة؟ في سنّي، النوم ضرورة. ألم تتعلّموا ذلك في الجامعات؟!". تتناول ألواح الشوكولاتة التي يحتفظ لها بها. في دكّانه، تبدأ أولى محطّاتها اليوميّة. هي تسكن في البناء المجاور. "نوم الهنا جدّو!". كلّ الشباب الذين نشأوا في هذا الحيّ، ينادونه "جدّو". وهو وإن سخط ببعضهم أحياناً، قائلاً إنّه ليس بسنّ جدّهم، إلا أنّه يشعر دائماً بفرحة غريبة تغمره. صحيح أنّه يُدعى أبو حبيب، غبر أنّه لم يرزق يوماً بولد. لقبه هذا يحمله مذ كان شاباً عازباً. حتى أنّ كثيرين لا يعرفون اسمه الأصلي. ولا يبحثون عن ذلك. ولما يفعلون؟

ميرا لها معزّة خاصة لدى الرجل الثمانيني. هي من القلائل الذين ما زالوا يقصدون دكّانه، وتحديداً في الصباح. "لم تجيبيني. أليس النوم نصف ساعة إضافيّة، أفضل من الجلوس هنا بلا طائل؟". تبتسم له.. "ومن أين أشتري الشوكولاتة، أنا؟".