عصابات التهريب تستبدّ بالفارين من جحيم الحروب

عصابات التهريب تستبدّ بالفارين من جحيم الحروب

كوبنهاغن
5698EA23-7F4D-47FA-B256-09D7BCA82E5A
ناصر السهلي
صحافي فلسطيني، مراسل موقع وصحيفة "العربي الجديد" في أوروبا.
06 يوليو 2015
+ الخط -

كانوا ثلاثة سوريّين اتخذوا قرار الهجرة غير الشرعيّة من وطنهم. أرادوا الوصول إلى النمسا والدنمارك عبر مقدونيا. تختلف رحلتهم عن مثيلاتها، هم الذين وصلوا إلى البلدَين سيراً على الأقدام.

"كانوا يضربون كلّ من يتلكّأ في المشي. في بعض الأحيان، كان الموت أهون. بدا الطريق بلا نهاية. كنا نضطر إلى الركض على سكك مخصّصة للقطارات. ولو صودف مرور قطار في تلك اللحظات، لقتلنا جميعاً. كانَ الركض على حجارة السكك صعباً جداً. لكن الخوف من العصي كان يجبرنا على الركض. مع شروق الشمس، طلبوا منا الانتظار في الغابة حتى موعد وصول السيارة ليلاً".

هذا ليس مشهداً من فيلم، بل ما يرويه اللاجئ السوري نادر الشيخ علي، ابن جبل الزاوية في إدلب، عن رحلته وابنه محمد (18 عاماً) وابن شقيقته غ.ه. وهو ضابط انشق عن جيش النظام السوري مع مئات اللاجئين عبر الحدود الأوروبية مروراً بمقدونيا.

لم تبدأ الرحلة في غابات مقدونيا وجبالها. كان الانطلاق من جبل الزاوية في سورية ثم الريحانية (إحدى مدن لواء إسكندرون) فإزمير التركية. كان الشيخ علي وابنه يريدان الوصول إلى الدنمارك. ابنه الأصغر الذي يبلغ من العمر 15 عاماً يعيش هناك، إلا أنه لم يحصل على "لمّ شمل" لعائلته، على الرغم من تقديمه جميع الأوراق والوثائق المطلوبة. قبل أن يغادروا سورية، خاف الشيخ علي على محمد، وخصوصاً أنه مطلوب من قبل جهات عدة في سورية، بما فيها النظام.

في ذلك الوقت، كانت العائلة مشتتة. ابن في الدنمارك وآخر في هولندا، فيما يتوزع بقية أفراد العائلة بين الريحانية وجبل الزاوية. كان المهرّب الأول قد وعدهم برحلة مريحة. انطلقوا من إزمير، وركبوا في شاحنة صغيرة إلى جانب 45 شخصاً. بعدها، رُميوا في أحد الوديان ومنعوا من الحركة تماماً، وقد طلب منهم إغلاق هواتفهم النقالة وانتظار حلول الظلام. يقول إن "مهرباً تركياً قادنا نحو 15 كيلومتراً سيراً على الأقدام، قبل أن نصل إلى سيارة".

اقرأ أيضاً: هربوا من الهلاك فأغرقتهم أحلامهم

بعد ثلاث ساعات من الانتظار، طلب منهم الصعود إلى زورق مطاطي صغير. يقول: "لم يكن أمامي خيار آخر. قد يقتلنا المهربون أو يرموننا في البحر. وقد راح كثيرون ضحية ذلك من قبل". لم يبحر الزورق المطاطي إلا بضعة كيلومترات ليتعطّل المحرك. يخبر أن أحدهم أراد الاتصال بخفر السواحل، فيما منعه آخرون خوفاً من العواقب، "فجذّفنا بأيدينا وبعد خمس ساعات وصلنا إلى شاطئ آخر. اتصلنا بالمهرّب فحضر وأصلح المحرك لنبحر ثانية. قاد شاب يمني المركب لكنه اصطدم بالصخور، فغرق وسبحنا حتى وصلنا الشاطئ ثانية".

مجدداً، مشى الشيخ علي والمجموعة لساعات طويلة، ثم ركبوا الحافلة وعادوا إلى إزمير. في اليوم التالي، أبحروا في زورق آخر ووصلوا إلى اليونان بعد ثلاث ساعات. نقلتهم الشرطة إلى معسكر وحصلوا على أوراق تخوّلهم التنقل في البلاد، وقد أعيدت لهم هواتفهم.

وإلى مقدونيا. كان يعرف معاناة اللاجئين لدى مرورهم في هذه البلاد، وخصوصاً التعامل معهم كمشتبه بهم. يتحدث الشيخ علي عن رحلة لجوئه إلى مقدونيا، حتى تكاد تشعر بالرعب والقلق الذي عاشوه طيلة أيام رحلتهم. يقول: "كنا أشبه ببضاعة تنقل من مهرّب إلى آخر". في الوقت نفسه، كانوا بحاجة إلى المهرّبين لعبور الغابات، "كانت هذه المرة الأولى التي أعرف فيها معنى العبودية".

على مرّ السنوات، سيطرت عصابات على الغابات والجبال بعدما تقطّعت برجالها السبل. وصار عملهم هذا يدرّ عليهم مالاً كثيراً، بحسب الناشطة فيولييت التي تعمل على مساعدة اللاجئين في مقدونيا. تقول لـ "العربي الجديد" إن "من لا يدفع ثمن العبور يُسلب منه كلّ شيء. أحياناً، يُقتاد إلى مراكز الأمن القريبة لينتهي به الحال في السجن بتهمة اجتياز الحدود بطريقة غير شرعية".

لم تستطع المجموعة التي كانت مع الشيخ علي وابنه وابن أخته الوصول إلى النقطة المتفق عليها في مقدونيا بواسطة السيارة. اضطروا إلى السير 12 ساعة متواصلة. كانوا يخشون أن يتعرضوا إلى السلب من العصابات الأفغانية والباكستانية. كانوا يعلمون أن بعض المهاجرين عادوا إلى صربيا ثم إلى اليونان بعد سرقتهم. وبعدما ساروا لمدة يومين في الغابات، التقوا بمجموعة تتألف من 200 شخص في غابة مقدونية. باتوا ليلتهم فيها حتى مساء اليوم التالي، في انتظار انضمام مجموعة أخرى إليهم. يقول الشيخ علي: "ساقنا أربعة مهرّبين. قسّمونا إلى مجموعات. كنا نسير ونُضرب بالكرابيج والعصي. بعدها، وصلنا إلى سيارة شحن صغيرة مغطاة بشادر، لينضم إلينا آخرون. وقد أجبرنا على رمي حقائبنا في الغابة".

اقرأ أيضاً: بريطانيا "تسجن" اللاجئين.. قبلَ الترحيل

يتابع الشيخ علي: "مثلَ الدواب، أجبر 250 شخصاً على الصعود إلى شاحنة صغيرة. بعد قليل، بدأ إطلاق النار على الشاحنة. ظننتُ أننا انتهينا جميعاً. أراد السائق أن يجعل السيارة تهوي إلى الوادي ليهرب مع المهرّبين. أحدهم سحب سكيناً وشق الشادر ليهرب منه، فرميت بابني وابن أختي من تلك الفتحة، وقفزت بعدها وتدحرجنا إلى الوادي. في الأحراش، بقينا من دون حراك لساعات، في وقت كان عناصر الشرطة والجيش يعتقلون المئات بعد محاصرتهم ونقلهم إلى باصات. قضينا أسبوعاً في الغابات مع عصابات التهريب".

وكان الشيخ علي قد عايش الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وتمكن من الهرب عبر البحر. مع ذلك، يقول: "كانت تجربة مقدونيا مختلفة تماماً. كنا نعيش في اللامكان". لم يكن أمامه وأمام ابنه وابن أخته إلا المشي، حتى وصلوا إلى محطة بنزين. اشتروا دراجات هوائية ووصلوا إلى إحدى البلدات المقدونية ليلاً. ذهبوا إلى محطة القطار، وصعدوا من دون تذاكر. أعطوا المراقب المال، لكنه أخبرهم بضرورة النزول قبل الوصول إلى العاصمة سكوبيه.

لحسن الحظ، يجيد الشيخ علي اللغة الروسية. وهو ما مكّنه من التواصل مع المقدونيين والوصول إلى محطة الباصات للسؤال عن كيفية الوصول إلى الحدود الصربية. يقول: "نصحنا الجميع بالمشي إذ لن يخاطر أحدهم ويقلنا بسيارته. لكنني تمكنت من إقناع سائق التاكسي بعدما أخبرته أننا نحمل جوازات سفر. ثم قلت له إننا خائفون من الشرطة، فأوصلنا إلى كمانوفا".

بقي أمامهم 47 كيلومتراً لبلوغ داخل صربيا، "ومشينا عشر ساعات. هناك، أقنعنا أحدهم بأن يشتري لنا بطاقات إلى بلغراد".

في بلغراد، بدأت رحلة أخرى مع المهرّبين. اتصل الشيخ علي بوسيط سوري جاء بسيارته إلى الحدود المجرية، حيث يتجمع المهرّبون. انتهت مهمة الوسيط السوري بمجرّد أن تسلمهم رجال صرب، لينقلوا عبر الغابات إلى نقطة أخرى في انتظار سيارة تنقلهم إلى النمسا. يقول: "كان الجو بارداً وماطراً في الغابة حيث كنا ننتظر. وعند الفجر، حضرت خمس سيارات لتنطلق بنا. تعطلت سيارتنا وطلب منا السائق الخروج بسرعة والتواري في الغابة. صرنا نركض ونتسلق السياج والأسلاك الشائكة. لم نكترث لدمائنا".

في بودابست، يؤكد أبو زياد وهو أحد سماسرة التهريب لـ "العربي الجديد"، أن "الشيخ علي كان محظوظاً في طريقه إلى المجر، فقد تعرّض كثيرون إلى السلب فيما سلّم آخرون إلى الشرطة. وما زال بعضهم مسجوناً". عند الساعة الثانية فجراً، وصل الشيخ علي ومن معه إلى المجر.

افترق الشيخ علي عن ابنه وابن أخته اللذين وصلا قبله إلى فيينا. في بودابست، أوصل شاب فلسطيني الشيخ علي إلى فيينا، ليلتقي ببقيّة أفراد عائلته في أحد الفنادق. هناك، وعدهم مهرّب عراقي بأن يوصلهم إلى الدنمارك، لكن الضابط المنشق اختار تسليم نفسه في النمسا وتقديم طلب لجوء فيها. يتابع الشيخ علي: "قطعت وابني تذكرتَي سفر بالقطار إلى هامبورغ (ألمانيا)، ومنها إلى كوبنهاغن. بعدما وصلنا، سلّمنا أنفسنا إلى الشرطة. نقلنا في 27 مايو/أيار الماضي إلى معسكر للجوء، وحصلنا على بطاقتَي طلب لجوء، وما زلت أنتظر أن يستمع المسؤولون عن اللاجئين في الدنمارك إلى قصتي وأن ينظروا في طلبي".

إلى ذلك، يقول مصدر أمني لـ "العربي الجديد" إن "الاتحاد الأوروبي يعيش مأزقاً حقيقياً بسبب شبكات التهريب التي تنتشر في مقدونيا، وخصوصاً في الغابات". أما أبو راضي وهو مهرب سوري، فيوضح لـ "العربي الجديد" أن "في مقدونيا وصربيا شبكات تهريب تدفع المال لرجال الشرطة ليسمحوا لنا بتهريب الناس، علماً أنهم يعتقلون بعضهم". يضيف أن المهربين الباكستانيين والأفغان يعملون لدى مافيات أخرى، تضم أشخاصاً من جنسيات مختلفة، من بينهم عرب وأوروبيون".

وعلى الرغم من مرور شهر فقط على وصولهما إلى الدنمارك، إلا أن نادر وابنه محمد يشعران بالراحة. لكن أكثر ما يقلقهما أن بقيّة أفراد العائلة ما زالوا ينتظرون في الريحانية وجبل الزاوية.

اقرأ أيضاً: لاجئو الدنمارك يزورون أوطانهم

ذات صلة

الصورة
تشييع رائد الفضاء السوري محمد فارس في أعزاز، 22 إبريل 2024 (العربي الجديد)

سياسة

شيّع آلاف السوريين، اليوم الاثنين، جثمان رائد الفضاء السوري اللواء محمد فارس إلى مثواه الأخير في مدينة أعزاز، الواقعة ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية.
الصورة
حال صالات السينما في مدينة القامشلي

منوعات

مقاعد فارغة، وشاشة كبيرة نسيت الألوان والحركة، وأبواب مغلقة إلا من عشاق الحنين إلى الماضي؛ هو الحال بالنسبة لصالات السينما في مدينة القامشلي.
الصورة
تهاني العيد في مخيم بالشمال السوري (العربي الجديد)

مجتمع

رغم الظروف الصعبة يبقى العيد حاضراً في حياة نازحي مخيمات الشمال السوري من خلال الحفاظ على تقاليده الموروثة، في حين ترافقهم الذكريات الحزينة عن فقدان الأحبة
الصورة
صلاة عيد الفطر في المسجد الكبير بمدينة إدلب (العربي الجديد)

مجتمع

أبدى مهجرون من أهالي مدينة حمص إلى إدلب، شمال غربي سورية، سعادتهم بعيد الفطر، وأطلقوا تمنيات بانتصار الثورة السورية وأيضاً أهل غزة على الاحتلال الإسرائيلي.