رائحتنا القاتلة

رائحتنا القاتلة

27 يوليو 2015
نتيجة حتمية لمسار اخترناه بأنفسنا (حسين بيضون)
+ الخط -
عندما كنا ننتظر باص المدرسة في الصباح الباكر، قبل زمن من اليوم، كان عمّال بلدية بيروت يمرّون بآلياتهم الصفراء لجمع النفايات. كنا ننزل في ذلك الوقت إلى الدّكان لشراء أرغفة الخبز الإفرنجي الساخنة، لزوم سندويشات المدرسة، فنحيّيهم ونودع نفايات منازلنا في آلياتهم.

أذكر أنه في زمن الحرب الأهلية كانت النفايات تتجمّع أحياناً عند نواصي الشوارع وفي الزوايا، فقد كان القتال اليومي يمنع العمّال من القيام بعملهم في أيام كثيرة. غير أنهم كانوا يعودون دائماً لجمع النفايات فور توقّف القتال. أذكر أيضاً رجلاً مسالماً اسمه سليم الحص، تسلّم تشكيل عدّة حكومات في لبنان، يحمل المكنسة بيده وينزل مع أهالي منطقته إلى الشارع لكنس النفايات معهم؛ ليشجّعهم على هذه الخطوة الحضارية.

لم يصل حجم أكوام النفايات يوماً، خلال الحرب، إلى ما وصل إليه في الأيام السابقة. فلبنانيو ما بعد الحرب، والتي لم تنته يوماً، يحبّون تكسير الأرقام، من صحن الحمص والتبولة إلى قرص الكبّة وكوب الليموناضة. مثلما يحبّون أسطورة طائر الفينيق الذي ينهض دائماً من تحت الركام. هل تراه ينهض من تحت أكوام النفايات اليوم؟

لم تسقط جبال النفايات التي تملأ شوارع بيروت اليوم من غيمة عابرة. هي نتيجة حتمية لمسار اخترناه بأنفسنا. جمع النفايات، والذي نقف عاجزين أمامه اليوم، ليس إلّا تفصيلاً بسيطاً في هذا المسار. غير أنّه تفصيل برائحةٍ كريهة.

لماذا لم نتأثّر ولم نغضب قبل ذلك؟ هل لأن خدمة الكهرباء لا تنقطع على مدار الساعة، ولأن مياه الدولة صحيّة وتفيض طوال الوقت من الخزّانات؟ هل لأن خدمات شركتي الخلويّ ممتازة وكلفتها معقولة؟ ربما لأن النقل العام منظّم ومريح والإسفلت مرصوص على الطرقات؟ هل لأننا لا نخاف على أنفسنا عندما نخرج من منازلنا من رصاص طائش أو من زعران ورجال عصابات يقطعون الطرقات علينا؟

اللبنانيون مغرمون بالسّخرية، ويصيرون باهرين فيها خلال الأزمات، من علم بلادهم الذي استبدلوا أرزته بكيس للنفايات، وهذا أمرٌ مقزّز، إلى صورة السجل العدلي الذي بات ممهوراً بـ"لا رائحة عليه" بدلاً من "لا حكم عليه"، وصولاً إلى حالة الطقس التي باتت مرتبطة بارتفاع جبال النفايات.

لم تطمرنا النفايات اليوم كما نظنّ. لم تفعل ذلك. لقد غرقنا فيها قبل زمن. غرقنا فيها يوم قرّرنا التخلّي بملء إرادتنا عن احتمال دولة مدنية، والاكتفاء بالسّخرية من حالنا، والسّير خلف زعماء يخجلون من حمل المكنسة.

الرائحة المنتشرة في شوارع بيروت ليست رائحة مخلّفاتنا المرميّة أو المحترقة، ولن تكون. هذه رائحة خنوعنا وضعفنا واستسلامنا، وقد باتت قاتلة.

إقرأ أيضاً: المصعد خارج الخدمة

المساهمون