العائلة التي لا ترى الضوء

العائلة التي لا ترى الضوء

25 مايو 2015
انتشر العمى في العائلة... (العربي الجديد)
+ الخط -

عندما ولدت الحاجة أسماء، لم تبصر النور. هي أتت الدنيا مع مرض وراثي أفقدها بصرها. لكن هذا العمى الذي انتشر في عائلتها، لم يفقدها أمل العيش. تقول: "أنا راضية تماماً بقضاء الله وقدره".

تزوجت المرأة السودانية بابن خالها الكفيف أيضاً والمعوّق من دون أن تتعرف على ملامحه وتتبيّن شكله. ومعاً أنجبا خمسة أولاد، ثلاثة منهم ولدوا فاقدي البصر. أما ابنة الأعوام الاثني عشر اليوم، فهي إلى جانب عدم إبصارها، عاجزة عن النطق.

وحكاية الحاجة أسماء، يصحّ بها القول إنها "لعنة حياة". هي تعيش وأسرتها وضعاً مريراً، تفتقر فيه إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة. وتعاني الأسرة من العوز بمعناه الحقيقي، في ظل إهمال كامل من قبل الحكومة وأجهزتها المتصلة بالرعاية الاجتماعية وما إليها.

عند أحد أطراف العاصمة السودانية الخرطوم تقطن الحاجة أسماء التي تجاوزت الخمسين من عمرها، في منزل شيّد من الطين وبدا عليه التهالك لكثرة الأمطار التي هطلت عليه. والناظر إلى هذا المنزل لا بدّ من أن يصاب بالدهشة ويسأل كيف ظل صامداً حتى اليوم. عند المدخل، باب حديدي متآكل، كتب عليه بخط ركيك "ملكة جانسي". هو عنوان المسلسل الهندي الذي تابعه معظم السودانيين والذي شكل موضوعاً للنقاش في البلاد.

"عائلة في الظلام" لقب يصحّ إطلاقه على أسرة الحاجة أسماء التي لم يصل التيار الكهربائي بيتها، ليشاركها ابناها المبصران العيش في الظلام، وكذلك الجدة التي تهتم بالجميع. وتبقى أمنية الحاجة أسماء في الحياة، أن ترى أبناءها لمرّة واحدة فقط.

من جهة أخرى، غالباً ما تكبّل قدما ابنتها بالجنازير وتحبسها في غرفة صغيرة، خوفاً عليها. فهي قد تخرج من المنزل وتتوه في الطرقات، خصوصاً أنها إلى جانب فقدانها للبصر والنطق تعاني من إعاقة في رجلها. وتخبر جدتها أنها سبق وتاهت، ولم يُعثر عليها إلا بعد نشر صورها في الصحف المحلية. لذا راحت العائلة تفكّر بالطريقة الأنسب لتقييد حركتها.

قبل أشهر قليلة، فقدت الحاجة أسماء زوجها الذي بترت رجله في حادث سير وظل طريح الفراش لفترة من الزمن. واليوم يتوكّل الابن البكر (17 عاماً) مهمة إعالة أسرته بالعمل على عربة "كارو" يجرّها حمار لنقل البضائع. لكن ما يأتي به الابن، يكاد لا يكفي العائلة.

وتخبر الحاجة أسماء التي تحاول إخفاء الحزن والأسى، أن "قبل وفاته، كان زوجي يعمل على طبلية (عمل هامشي) لكنه عجز عن الاستمرار فيه بسبب الحادث الذي تعرّض له. فراح ابني يعمل ليؤمن مصاريفنا. والجيران أيضاً يساعدوننا". تضيف: "نحمد الله على هذه القسمة"، مؤكدة أنها وعلى الرغم من فقدانها بصرها تستطيع التفريق ما بين أبنائها والشعور بمرض كل واحد منهم وبتعبهم.

يتألف منزل الأسرة الكفيفة من غرفتَين، إحداهما شيّدها فاعل خير. في داخلها نجد عدداً من الأسرّة التي نسجت من الحبال من دون مراتب، وفرشت على بعضها بطانيات بينما الآخر ظلّ خالياً. وعلى الأرض نجد زيرين وهما كناية عن إناءَين كبيرَين مصنوعَين من الفخار لتبريد المياه. وعلى إحدى الطاولات المهترئة، وضعت أوان وأكواب معدنية. هذه كل مقتنيات المنزل الذي غابت عنه كل وسائل الحياة الحديثة، من مكيّفات ومراوح وثلاجات وتلفزيونات.

عندما يتأمّل الناظر أبناء هذه المرأة الكفيفة، لا يستطيع إلا ملاحظة أقسى مظاهر الفقر عليهم. الملابس التي يرتدونها بالية، أما بشرة أجسامهم الصغيرة فتبدو خشنة، في حين امتصّ الحزن ملامحهم البريئة.

والحاجة أسماء وأبناؤها يتدبّرون معيشتهم من المبالغ البسيطة التي يتقاضاها الابن البكر، بالإضافة إلى المعونات التي يقدّمها لهم فاعلو الخير من أقرباء وجيران. صاحب المخبز القريب من منزلهم مثلاً، يخصص لهم يومياً عدداً من أرغفة الخبز، ليسدّوا بها جوعهم. تجدر الإشارة إلى أن الأم تعجز في أحيان كثيرة عن توفير طعام لأولادها. فتأتي أرغفة الخبز هذه لتصبّر خواء بطونهم.

اقرأ أيضاً: أطفال السودان يرمون القبّعات

دلالات