قليل من الموسيقى

قليل من الموسيقى

22 سبتمبر 2014
تحرّرنا الموسيقى من كلّ ما نحن فيه (ماري تورنر/Getty)
+ الخط -
الصبية التي تعزف على آلة التشيللو الخشبية لطيفة وخجولة وتمتلك ابتسامة ساحرة. عندما يشير قائد الأوركسترا إليها بيديه، على اعتبار أنها عنصر أساسي في أداء إحدى المقطوعات التي تتولّى الفرقة عزفها، ستقف باستحياء شديد وتنحني أمام الجمهور بخفر. كأنها طفلة تواجه الوجوه الغريبة للمرة الأولى.
الصبية الخجولة عضو في الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية. هذه الفرقة المحترفة تضمّ أجيالاً مختلفة من العازفين والعازفات. يتجاورون في جلوسهم ليعزفوا سوياً، الألحان نفسها.
والموسيقى تصير ساحرة أكثر عندما تأتي بأنامل محترفة تلعب ألحاناً خالدة لقامات كبيرة مثل وليد غلمية ومحمد عبد الوهاب ومرسيل خليفة وسيد درويش.
يتوجّه قائد الأوركسترا المتحمّس نحو الستارة السوداء في آخر المسرح ليرحّب بضيف الأمسية الموسيقية، الفنان محمد محسن.
يحمل هذا الشاب الحنطي النحيل، الذي استضافته الأوركسترا في الجامعة اليسوعية في بيروت، في شكله وصوته الكثير من مصر، بلده. أو لعلّه يحمل شيئاً من مصر كما نحب أن نتخيّلها. مصر الحارات الشعبية. مصر الناس العاديين. مصر الثورة التي ولدت ومستمرة رغم محاولات الوأد الدائمة. مصر المواطن الفقير الذي يعارك اليوميات من أجل رغيف الخبز وعلبة الدواء ومريول المدرسة وقبلها كلّها العيش بكرامة. مصر "درس العربي في الأرياف" بكلّ ما تحمله هذه الكلمات من معان اجتماعية وإنسانية، ورغبة أبناء الأطراف ونزعتهم وكفاحهم للترقي في الحياة.
تحرّرنا الموسيقى من كلّ ما نحن فيه. تأخذنا إلى حيث نريد فعلاً أن نكون. إلى مساحات ليس فيها قتل وذبح وخطف وتعذيب واعتقال. ننفذ عبرها من المكان والزمان اللذين علقنا فيهما بدون إرادة منّا في هذه البقعة القاسية من الأرض. المكان والزمان اللذان نقتل فيهما كل يوم من دون إرادتنا.
نُذبح بالسواطير من دون رحمة ونتفرّج على رؤوسنا تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي. نتفرّج على دمنا المسفوك عبر الشاشات وننتظر موتنا المحتوم. والخدر الجميل الذي تنقلنا الموسيقى عبره ينزل في داخلنا ليرفعنا من مكاننا على جناح غيمة، هو خدر محبب في كل الأوقات والأماكن.
خدر له سحر خاص إن جاء في مسرح، لكنّه قد يخرج عبر مسجّلة السيارة أو من راديو قديم في مقهى عند زاوية الشارع، تجمّع فيه عدد من العجزة ليلعبوا طاولة الزّهر ويتذكروا بعض ما مضى. فالموسيقى تصيب القلب مباشرة. تلفّه، وتعيدنا إلى إنسانيتنا التي نتفرّج عليها تتهشّم كل يوم.
يوم غد، عندما يزول كل هذا الأسى الذي نحن فيه، والذي هبط علينا من دون أن ندري، سيختفي كل شيء ولن يبقى إلا الموسيقى في الفضاء.
تعالوا نغنّي الآن.

دلالات

المساهمون