"الدفع" لون سوداني خاص لليتم

"الدفع" لون سوداني خاص لليتم

03 يونيو 2014
الدفع يحرم عددا من أطفال السودان الأسرة الطبيعية (Getty)
+ الخط -
قد يفقد المرء أحد والديه وهو في سني حياته الأولى وقبل أن ينطق لسانه بكلمة "ماما" أو "بابا" ويعيش يتيماً.. لكن أن تفتقد والديك وهما على قيد الحياة، فهذه هي المأساة الحقيقية.

ذلك واقع اجتماعي وتقليدي يعيشه عدد غير قليل من السودانيين نتيجة "الدفع"، أي حين "يدفع" الأبوين بكامل رضاهما ومن دون ضغوط بأحد أطفالهما لتتم تربيته لدى جدته أو خالته أو عمته، اللواتي عادة ما يطلبن الطفل لحرمانهن منه، أو في حال كبر أولادهن وتزوجوا.

"فاطمة" امرأة بسيطة عاشت مأساة قاسية بسبب "الدفع". حكت قصتها لـ "العربي الجديد"، قائلة وهي تحاول جاهدة أن تكفكف دموعها دونما فائدة: "كان عمري عاماً واحداً فقط عندما سمح والديّ لعمتي أن تأخذني منهم وتبعدني عن إخوتي، بعدما عبرت عن رغبتها في ذلك باعتبار أن لديها بنتا فقط. كانت تريدني أختاً لابنتها. وبالفعل، أخذتني وجاءت بي إلى الخرطوم فيما انتقل أهلي إلى تشاد بسبب ظروف عمل والدي". وتؤكد أنها "حتى تاريخ اليوم، لم تر وجه والديها ولا أشقائها".

وتسأل فاطمة بحرقة: "لماذا أنا بالذات قرروا التخلص مني بهذه الطريقة". تصمت قليلاً قبل أن تتابع:"تعودت على عدم وجودهم في حياتي، لكن عندما دخلت الجامعة تملكني إحساس ورغبة قوية في رؤية والدي وأشقائي، وتحسس ملامحهم. لكن عدم قدرتي على توفير مصاريف السفر إلى دولة أخرى حال دون ذلك. كما أن عمتي أخبرتني أن والدي قد يلجأ إلى تزويجي لأي شخص هناك، فتراجعت عن الفكرة وقتها، رغم أن الحلم في لقائهم لم يفارقني لحظة".

لدى فاطمة الكثير لتبوح به. تقول: "في المدرسة، كنت أتخيل والدتي تشاركني فرحة النجاح، قبل أن أصطدم بالواقع المرير. افتقدتها كثيرا عند زواجي للمرة الأولى". وتضيف: "يومياً أنام وأحضن ابني وأعده ألا يفارق حضني". وعن علاقتها بإخوتها، توضح أنها "تشعر بوجود حاجز كبير بينهم، فكلما حاولت التقرب منهم يبتعدون عنها كأنها غريبة، فهي من تتصل وتسأل من دون أن تلقى تجاوباً منهم".

وتلفت فاطمة إلى أنها ترتب الآن للذهاب إلى والديها ورؤيتهم. ومع اقتراب موعد السفر، تختلط مشاعرها. فهل تؤنب والدتها عند لقائها، أم ترتمي في حضنها الذي افتقدته كل تلك السنين؟

لم تكن "فاطمة" وحدها من دفعت ثمن التقاليد والعادات السودانية. طارق أيضاً عاش القصة نفسها، وإن بشكل مختلف.

أخذته جدته لأبيه من والديه وكان عمره خمسة أعوام. عاش معها في القرية حيث مسقط رأس أبيه. يقول إنه تلقى الحنان والعطف و"الدلع" من جدته، لكنه كان يفتقد شيئا ما. واظب والداه على زيارته سنوياً. لكنه لم ير إخوته الخمسة كثيراً. يضيف "أعيش الآن مع عائلتي. إذ عدت إليهم بعد وفاة جدتي مباشرة وكان عمري اثنين وعشرين عاماً. في الفترة الأولى، كنت أشعر بأنني ضيف في منزلي".

أما "نهلة"، وهي من إقليم دارفور(غرب السودان)، فتقول إن "جدتها لأمها أخذتها من أبويها وعمرها سبع سنوات لتقيم معها بعدما تزوج جميع أبنائها وتفرقوا". وتضيف:"في صبيحة يوم مشؤوم جاءتني جدتي وأخبرتني أن أستعد للسفر معها إلى الخرطوم لأكون ابنتها. أكدت لي وقتها أننا لن نعود ثانية إلى نيالا(عاصمة جنوب دارفور). كنت طفلة ولم أدرك فحوى

حديثها، إلى أن كبرت وتمنيت لو كان لي عقل وقتها واختبأت عن جدتي حتى لا تأخذني معها وتحرمني من أمي وأبي وإخوتي".

تؤكد نهلة، وقد بدا عليها الحزن، أنها "حتى الآن لم تر بعض أشقائها منذ أن فارقتهم قبل 20 عاماً. تتواصل معهم عبر الهاتف فقط. رغم ذلك تتفاعل مع مشاكلهم". وتضيف أن "معظم أشقائها العشرة تزوجوا وأنجبوا من دون أن تشاركهم فرحتهم. فظرفهم المعيشي منعهم من السفر". وتؤكد أن "والدتها تزورها كل ثلاثة أعوام مرة واحدة، وهي عادة ما تتخذ من وجودها فرصة لتأنيبها للتخلي عنها ودفعها لجدتها".

وتضيف نهلة: "مهما كانت الجدة أو غيرها فلن تأخذ مكان الأم. كما أنها عاشت معاناة حقيقية بعيداً عن والدتها". وتلفت إلى أنها "قطعت عهداً على نفسها بألا تدفع إطلاقا بأي من أبنائها لأي شخص مهما كانت درجة محبته في قلبها وثقتها به. لن يفرقني عنهم إلا الموت".

تلك مجرد أمثلة لمأساة أطفال حرموا من العيش تحت كنف الأسرة ودفء وحنان الأم من دون إرادتهم.

وفي السياق، يقول الباحث الاجتماعي عبد الرحيم بلال لـ "العربي الجديد" إن "ظاهرة الدفع موجودة

في السودان منذ وقت بعيد، لكنها عادة ما تتم في منطقة وجود أسرة الطفل". ويوضح أن "الظاهرة تراجعت بسبب غياب العائلة الممتدة. ففي السابق كانت الأسرة تتألف من حوالي تسعة أطفال، إلا أنه بات عددهم اليوم لا يزيد عن ثلاثة كحد أقصى".
ويتابع بلال أن "حالة القطيعة الكاملة وإبعاد الطفل عن أسرته يفضيان إلى  رواسب خطيرة على المجتمع والطفل، ويشعرانه بالعزلة والدونية وخصوصاً أنها حالة غير طبيعية".

أما المعالجة النفسية آمنة عبد المطلب، فتقول لـ "العربي الجديد" إن "إبعاد الطفل في سن مبكرة عن والديه وأشقائه يولد لديه شعوراً بالغبن تجاههم، ولا سيما إذا عانى مع متبنيه". وتضيف أن "كل ذلك قد يجعله شخصية عنيفة في كل تصرفاتها".

دلالات