أفراد عائلة الحرازين استشهدوا ممسكين أيدي بعضهم

أفراد عائلة الحرازين استشهدوا ممسكين أيدي بعضهم

12 مارس 2024
شهداء عائلة الحرازين (فيسبوك)
+ الخط -

"بعد 25 يوماً، اكتشف أخي سميح مكان استشهاد شقيقينا أشرف وفاروق وشقيقتنا الدكتورة ناهد في الشجاعية. وجدناهم وقد نهشت الكلاب أجسادهم، وقال لنا إنهم كانوا ممسكين بأيدي بعضهم البعض"، يقول محمد سلمان الحرازين مقلباً الصور في هاتفه، من بينها الصورة التي احتضن فيها أمه حين عادت من مكة المكرمة قبل أشهر من استشهادها.
هذه المشاهد الأليمة التي تفوق الخيال أصبحت واقعاً مرئياً في كافة شوارع قطاع غزة. سقط مئات الشهداء جراء آلة الحرب الصهيونية أثناء مرورهم في الشوارع، وتركتهم طعاماً سهلاً للكلاب الضالة والقطط الجائعة. أي مأساةٍ يعيشها الغزي حين يسمع أمراً مماثلاً عن أشقائه الذين لطالما شاركهم الأسرار والأحلام والضحكات وليالي السمر. لطالما أكلوا معاً وشربوا من أكواب بعضهم البعض.

يقول محمد سلمان الحرازين باكياً: "نزف قلبي من هذه الخاتمة"، ويزداد الوجع حين يبقى شقيقه سميح حارساً لركام المنزل الذي تقبع أسفله الأم والأخت والزوجة والأبناء حتى يومنا هذا.
تسعة شهداء من نفس العائلة سكنوا طوال عمرهم في نفس البيت وارتقوا في نفس اليوم، استشهد ثلاثة منهم في قصف مباشر أثناء مرورهم بأحد الشوارع وكانوا في طريقهم للاطمئنان على بيت شقيقتهم الذي قصف، وستة في قصف مباشر من الطيران الحربي على منزلهم المكون من أربعة طوابق.
قبل قصف منزلهم في حي الشجاعية شرقي غزة، نزح عدد من أفراد العائلة والأطفال إلى جنوب قطاع غزة. أما الصيدلي سميح، فكان ممن أصروا على البقاء في منزلهم الكائن في حي الشجاعية، ليكون الشاهد الوحيد على استشهاد والدته وشقيقيه وشقيقتيه وزوجته سماح وأطفاله سلمان ونصر والرضيع هشام الذي ولد في الحرب واستشهد فيها. يقلّب محمد الحرازين في ملف الصور لديه على هاتفه الخلوي، ويختار عدداً منها ويصنع منها قصة وينشرها على جداره على فيسبوك ويرفقها بأناشيد عن الشهداء وموسيقى حزينة.
ينظر مطولاً إلى صور والدته سهيلة عبد العزيز الحرازين (87 عاماً) التي ربّت أولادها واجتهدت في تعليم أبنائها الذكور والإناث رغم أنها غير متعلمة، فكان منهم الطبيب والمهندس والمدرس. على ماكينة الحياكة التي امتلكتها بعد وفاة زوجها، أفنت والدته عمرها في العمل مجتهدة لتعليم أولادها.

كانت والدته من الفلسطينيات القويات اللواتي تحدين صعوبات الحياة ومشاقها، وكانت لهم بمثابة الأم والأب والعم والعمة. كانت بالمختصر هي الحياة كما يقول محمد، مشيراً إلى أنها جاهدت وتعبت من أجل أن تؤدي رسالتها فعملت في مجال الحياكة والتجارة لتعليم أولادها الذين تخصصوا في مجالات الطب والتربية والتمريض. وأتمت الشهيدة الأم فرائض دينها الخمس حين اختتمت حياتها قبل أشهر من استشهادها بحج بيت الله الحرام.
يقول ابنها المكلوم محمد إن عودتها من الحج كانت أجمل ما عاشوه في حياتهم لتنقلب هذه السعادة إلى حزن عميق باستشهاد السيدة التي كان يعشقها الأخوة والأخوات والأبناء والأحفاد وكل من تعامل معها. واستشهدت برفقة الوالدة الشقيقة فدوى (55 عاماً) التي كانت مصابة منذ عام 1996 على يد الاحتلال الإسرائيلي، وتمكنت بعد عدة عمليات جراحية امتدت لسنوات من السير على قدميها لتستشهد برفقة والدتها في اليوم السابع من ديسمبر/ كانون الأول للعام 2023. عن شقيقته فدوى، يقول محمد: "كانت لنا أماً ثانية". ولا يزال جثمانها تحت الأنقاض.
كما استشهدت سماح زوجة سميح الذي نجا حين غادر المنزل قبل قصفه بدقائق معدودة. هرع إلى الشارع بعد سماعه قصفاً قريبا رافق خروج أشقائه للاطمئنان على شقيقة لهم قصف بيتها في المنطقة قبل ساعة. الشهيدة سماح كانت محبوبة من كبار العائلة وصغارها، وكانت بمثابة الابنة لوالدته والشقيقة لهم، كما يقول محمد.


أما شقيقاه أشرف وفاروق وشقيقته ناهد، يقول محمد إنهم استشهدوا حين قام الاحتلال بإلقاء قذائفه نحو الشقيقين، فهرعت الشقيقة الدكتورة ناهد وزوجة أخيها فاروق لإنقاذهما، ليباغتهما الاحتلال بالمزيد من القذائف لتستشهد ناهد وتصاب زوجة الأخ فاروق بإصابات متعددة. 
الشهيد أشرف سلمان الحرازين هو الابن الأكبر للعائلة من بين الذكور ويبلغ عمره 45 عاماً، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في الفيزياء والحاسوب. عمل مدرساً في مدارس غزة لمادة الفيزياء منذ عام 2015، وهو متزوج ولديه خمسة أبناء. أنقذهم القدر ونزحوا قبل قصف البيت برفقة اثنين من أعمامهم وزوجاتهم إلى جنوب قطاع غزة.
عن شقيقه البكر أشرف الملقب بأبي سلمان، يقول محمد: "كان يبعث في قلوبنا البهجة. هو رجل صالح وتقي وكان محافظاً على الصلاة. لم أرَ أنه حاد عن الصواب أو الحق يوماً"، مضيفاً: "كان جميل الوجه وطيب الخلق وجميل المعشر، وكان باراً بأمه وإخوانه وحل محل والدهم الذي توفي عام 2020".
أما عن شقيقه الشهيد فاروق (36 عاماً)، فهو متزوج وليس لديه أبناء، وكان موهوباً بالكتابة ويمتاز بخط جميل، وكان يكتب على الجدران ويعمل في مجال طباعة اللوحات، وكان طيب القلب ومحباً للأطفال. ومن أبرز شهداء عائلة الحرازين الدكتورة ناهد سلمان الحرازين (51 عاماً)، التي شغلت منصب رئيس قسم النساء والولادة بمجمع الشفاء الطبي ومديرة مستشفى الحرازين بحي الحرازين وصاحبة عيادة ناهد كلينك.

يقول محمد: "ما من امرأة لا تعرف الدكتورة ناهد. تقريباً قامت بتوليد نصف نساء مدينة غزة". عملت في مجالها خمسة وعشرين عاماً، مشيراً إلى أنها كانت تحمل مشاعر الأمومة لأشقائها الأصغر منها سناً وكانت المحفز الأول لهم لاستكمال تعليمهم المدرسي والجامعي، واستشهدت أثناء محاولتها إنقاذ شقيقيها اللذين تم قصفهما بالشارع ليتم قصفها بصاروخ إسرائيلي وتستشهد إلى جانبهما.
تميزت الطبيبة ناهد الحرازين بالإخلاص والتفاني في العمل، ولم تدخر جهداً في خدمة وطنها حتى خلال الحرب. استمرّت في عملها داخل مجمع الشفاء الطبي، إلى حين انسحاب الكادر الطبي بعد اقتحام المستشفى من قبل قوات الاحتلال، لتنتقل إلى بيت العائلة في حي الشجاعية شرقاً. وكانت خلال العام الماضي ضمن البعثة الطبية المرافقة لحجاج بيت الله الحرام، مشيراً إلى أنها كانت سعيدة للغاية بأدائها فريضة الحج. ينظر إلى الصور ويقلبها بحزن شديد. ويسأل: "هل ضربتم موعداً واحداً مع الشهادة وتركتم خلفكم ابناً يبكي ليل نهار؟". والبكاء في غزة لا يرتبط بالأعوام أو الأعمار، فقد أبكت هذه الحرب الحجارة وأدمت القلوب.

المساهمون