بوتين يؤمّم ما... خصخصه

بوتين يؤمّم ما... خصخصه

08 أكتوبر 2014
خصخص بوتين وميدفيديف "باش نفط" (ساشا موردوفيتس/Getty)
+ الخط -


تمّ التعاطي مع مواطني الإمبراطورية السوفييتية حين كانت على وشك الانهيار بأكثر أشكال الظلم. وكانت عدسات بعض الصحافيين الأحرار تُسجّل مشاهد إتلاف المواد الغذائية، فيما رفوف متاجر الأغذية فارغة، ليتقبل المواطنون السوفييت الجائعين إعدام دولتهم، لا بل باتوا يتمنّون أن يتم ذلك في أسرع وقت. كان الاتحاد السوفييتي يتهاوى، وبدأت رواتب العاملين تتراكم شهراً بعد آخر، ولا تُدفع لهم، ويُسلّم بدلاً منها "فاوتشرات" أو "بونات" (بطاقات خاصة)، لم تكن تصلح لشراء لقمة خبز، قبل أن يتبيّن لاحقاً أنها ذات قيمة عظيمة بيد السارقين، وليس بسطاء الناس الذين كانوا يبادلون بها زجاجات فودكا، أو مبالغ سخيفة من المال.

بدأت العصابات تعدّ العدة للانقضاض على الدولة وأملاكها، وتجمع هذه القسائم، لمبادلتها لاحقاً بمؤسسات الدولة الانتاجية. وباتت كبريات الشركات، بما فيها شركات النفط، تُسلّم لعصابة سُمّيت في حينها بـ"عائلة (الرئيس الروسي الراحل بوريس) يلتسين" الأوليغارشية، مقابل قصاصات ورق.

لكن الخصخصة لم تقتصر على عهد يلتسين، الديمقراطي الذي أطلق النار على برلمان بلاده بما فيه من برلمانيين، بترحيب من الغرب في العام 1993، إنما استمرت في عهد ثنائي السلطة الرئيس فلاديمير بوتين، ورئيس وزراءه ديمتري مدفيديف. ففي عهدهما تمت خصخصة الشركة البشكيرية للنفط "باش نفط"، وفي عهدهما تجري محاولة انتزاعها من مالكها الجديد فلاديمير يفتوشينكوف، الذي اشتراها من عائلة شاريها الأول، رئيس جمهورية باشقورتوستان السابق، مرتضى رحيموف.

وتدور الحكاية حول العفو عن السارق الأول وسجن شاري المسروقات بأموال منهوبة أيضاً، وغضّ النظر عن كبار البيروقراطيين الذين صادقوا على الصفقتين وشرعوهما. ويُعتبر مفهوم "مرتكب تحت الطلب" آلية معروفة في أنظمة الإدارة بـ"الفساد" الذي يتيح كسباً غير مشروع يُسجّل في ملفاتهم الأمنية ـ الاقتصادية للتحويل إلى القضاء عند الحاجة.

واليوم روسيا في حالة حصار، قد يتحول إلى كارثة تُنذر بأسوأ النتائج على اقتصادها واستقرارها السياسي، إذا ما تم تخفيض سعر النفط أكثر من عتبة معينة، كما جرى تمهيداً للضربة القاضية للاتحاد السوفييتي في حينه. صحيح أن تغطية العجز تتم اليوم من جيوب المواطنين الروس، إذ يتم رفع سعر الدولار بما يغطي نفقات الموازنة المحسوبة بالروبل، إلا أن جيوب المواطنين وصبرهم لا يمكن الارتكاز عليهما إلى ما لا نهاية.
فهل يأتي تأميم شركة "باش نفط" في منحى سد العجز الاقتصادي أم ضربة سياسية لمن سُمّوا في تسعينيات القرن الماضي "الروس الجدد"، أنصار الغرب؟ من الضروري ألا يغفل سيد الكرملين عن أبعاد الضربة الجديدة للخصخصة والتي ينتظر ألا تكون الأخيرة، بمضاعفاتها، الداخلية والخارجية.

ولأجل ذلك تعمل النيابة العامة الروسية على استعادة "باش نفط" إلى ملكية الدولة، مع ما يعنيه ذلك من أن القضاء الروسي يعيد النظر، عملياً، بملفات خصخصة تمّت منذ 11 عاماً. ففي العام 2003، تمّ بيع أسهم شركة النفط البشكيرية، لعائلة رحيموف، ثم قامت شركة "سيستيما" العائدة ليفتوشينكوف، بشراء "باش نفط" من عائلة الرئيس، سنة 2009.

وعلى الرغم من أن رحيموف، كما ترى لجنة التحقيق، وفقاً لـ"غازيتا.رو"، دفع مبالغ هزيلة رسمياً مقابل شركة النفط، التي تُعدّ واحدة من أكبر خمس شركات نفط روسية، الأمر الذي أدى إلى خسارة الميزانية المحلية لمئات ملايين الدولارات، إلا أن الحديث يدور عن العفو عن عائلة رحيموف بحكم تقادم القضية، وإلزام شاري الشركة الجديد، يفتوشينكوف، بتسديد ما كان يتوجب تسديده، بل مصادرة الشركة وإعادتها إلى ملكية الدولة.

وتمّت عملية بيع "باش نفط" ليفتوشينكوف، تبعاً لتسريبات التحقيقات الأمنية المنشورة، عبر التحايل على القانون. وتهرّبت شركة "سيستيما" العائدة ليفتوشينكوف من تسديد 500 مليون دولار أخرى للخزينة مقابل "باش نفط". ولذلك، تم وضع مالك "سيستميا" تحت الإقامة الجبرية في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، وسيبقى قيدها، حتى 16 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بانتظار تقديمه للمحكمة، علماً بأنه تم رفض إخلاء سبيله بكفالة قيمتها 300 ألف دولار، لمحاكمته طليقاً.

ونقل موقع "غازيتا.رو" عن رئيس مجلس المحامين في روسيا، إيغور ترونوف، قوله إنه "إذا انطلقنا من الممارسة الواقعية، فإن الخصخصة برمتها في روسيا كانت رمادية. وكانت هناك ثغرات في القوانين. والمسائل الإجرائية لم يكن القانون ينص عليها بدقة. ولذلك يمكن، عند الرغبة، إثبات عدم شرعية خصخصة أي شيء".

كما وجّه اتحاد "الصناعيين والمستثمرين" الروسي، رسالة إلى بوتين، يعلن فيها تضامنه مع مالك "سيستيما". كما أن رئيس "سبيربانك" هيرمان غريف، ووزير المالية السابق، أليكسي كودرين، ورئيس شركة "روس نانو" الحكومية أناتولي تشوباييس، أعلنوا، بصورة متزامنة عملياً، عن أن توقيف يفتوشينكوف، ستكون له مضاعفات سلبية خطيرة على المناخ الاستثماري في روسيا. حتى إن موقع "غازيتا.رو"، نشر عن غريف قوله إن وضع يفتوشينكوف تحت الإقامة الجبرية يشكل مأساة شخصية بالنسبة له.

كما نقلت وكالة "إيتار تاس" استغراب وزير التنمية الاقتصادية، أليكسي أوليوكاييف، لقرار إعادة النظر في ملكية "باش نفط"، فقال "هذا القرار غير مفهوم بالنسبة لي".

وفي السياق، أعلن رئيس "اتحاد الصناعيين والمستثمرين" الروسي، ألكسندر شوخين، أنّ "المهمة الأساسية، يجب أن تكون إرغام الملاك غير الشرعيين على إعادة المال إلى خزينة باشقورتوستان. أما أن يكون على فلاديمير يفتوشينكوف أن يدفع المال أم لا، بوصفه المستثمر الأخير، فسؤال صعب. فذلك سيضع الخصخصة برمتها موضع تساؤل".

علماً بأن الحقوقي يفغيني كارييف، المشهور في بشكيريا بقضاياه الخاصة بإعادة أموال الخصخصة إلى الخزينة، قال "أفاد رئيس لجنة التحقيق الروسية، ألكسندر باستريكين، في عام 2009، بأن ملف ابن رئيس الجمهورية السابق (المالك السابق لباش نفط) فيه من الوثائق ما يكفي، وهو ينتظر أمراً من فوق، وها هو الوقت قد حان". حسبما نقلت عنه صحيفة "ارغومينتي إي فاكتي".

وأما رئيس باشقورتوستان الحالي، رستم حميدوف، فقال بما لا يغضب الكرملين "تم خداع الجمهورية عند تخصيص باش نفط، ونحن كقادة لهذه الجمهورية، مهتمون إلى أقصى حد بأن تعود أملاك الشركة إلى ملكية الدولة، وأن تتحقق العدالة في هذه القضية".
الجميع يتوخى العدالة، لكن عدالة الحاكمين والأقوياء شيء، وعدالة المحكومين المستضعفين شيء آخر. ودائماً ما يكون هناك ملفات جاهزة بانتظار أن يحين موعدها، من أجل إمكانية إغلاقها، حتى إتلافها، عند اللزوم، ومبادلتها بالطاعة.

المساهمون