الجزائر... الجدل الذي يُعطّل مرتين

الجزائر... الجدل الذي يُعطّل مرتين

27 مايو 2020
ليس على الجزائريين العودة لمربع المتاهات العبثية(رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -
بين انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988 وحراك فبراير/شباط 2019 ظروف ودوافع متشابهة في العلاقة بالفساد والخراب الاقتصادي والانسداد السياسي بسبب انحراف مشروع الدولة الوطنية عن غاياته، لكن لماذا يتشرب الجزائريون الخطأ مرتين، باستدعاء الظروف نفسها التي أدت إلى إفلات الفرصة الديمقراطية وقد حدث ذلك في تجربة التسعينيات؟ يبدو أن النخب الجزائرية غادرت محطة الذاكرة سريعاً بعد أن تمّ استدراجها إلى المربع الساخن نفسه في الوقت الحالي، مع أن الديمقراطية تحتاج إلى العقل البارد، أو كأن التجارب تُعاش لتعاد لا لكي يتم استقراء دروسها. في بداية التسعينيات كانت الجزائر تعيش تجربة ديمقراطية غضة وفتية، فقد حبلت انتفاضة أكتوبر 1988 بطموحات تقدمية، لم تنتبه النخب السياسية حينها إلى أن أساسات الديمقراطية لم يتم تركيزها بعد، وأن دعامات الانتقال الديمقراطي لم تثبّت والملعب السياسي غير واضح الخطوط، ولذلك تأسس الفعل والنقاش السياسي في تلك الفترة على"الهيجان الجماهيري" و"مشكلات الهامش".

كان واضحاً في تجربة التسعينيات أن ضيق الأفق وفقدان التجربة للفاعل السياسي الجزائري فرض عليه البحث عن "جبة"، كل وجد غاياته في إحداها (الإسلام، العلمانية، الثورة، الوطنية، الأمازيغية، التعريب وغيرها). نجح الجزائريون حينها في تحويل المشترك الديني والثقافي وعوامل الانفتاح السياسي إلى رمح احتراب، واحتكر حزب سياسي الإسلام لدرجة أن صوّر للجزائريين أن الانتخاب على قوائمه هو انتخاب على الإسلام، واحتكر حزب آخر ثورة التحرير حتى صوّر أن من لا يصطف معه "عملاء استعمار"، وركبت أحزاب أخرى حصان العلمانية حتى تصور العالم أن الجزائر تتهددها مشانق القرون الوسطى. هكذا غاصت أرجل الجزائريين في وحل الإقصاء وفي رمل الأسئلة السابقة لزمنها الديمقراطي، وأعماهم غبار معارك "التكفير السياسي" عن معركة التأسيس العملي للديمقراطية، بينما كان النظام الذي صمم وحده دستور المرحلة، يتخذ المسافة والوقت الكافيين ليجدد نفسه ويحدد وحده الخيارات المستقبلية للبلد، وهكذا تم توظيف كل تلك الصراعات في سياق هدم مسار كامل، فخرج الجميع بسلة بلا بيض، ليخسر الجميع ويفوز النظام الذي لم ينافسه أحد.

جزء من هذا المناخ المفخخ الذي لا يستهدف هذه المرة تخريب الفرصة الديمقراطية فحسب بل تمزيق الجغرافيا أيضاً، يعود بمناسبة مناقشة دستور الجزائر الجديدة، ومن المهم بالنسبة للنخب السياسية في الجزائر استدعاء تلك التجربة المريرة لتلافي مظاهرها. يجدر بالقوى الوطنية التفكير في "مزفران" ثالثة (فندق عقد فيه مؤتمران للمعارضة عام 2014 انبثقت منه وثيقة عدت سابقة في تاريخ التوافق بين قوى المعارضة)، تكون رافعة للحالة الديمقراطية، وتطويراً للموقف الجامع حول الضرورة الديمقراطية وتمثيلاً لاجتماع الجزائريين على المطلب نفسه في حراك فبراير، ولمنع تفرّد النظام بصياغة الخيارات الأساسية في الدستور كما حدث في دستور عام 1989.

ليس على الجزائريين العودة إلى ذلك المربع المغلق ذي المتاهات العبثية، لأن حظهم من الديمقراطية لن يكون أفضل من جيل التسعينيات. في التجربة السالفة كان عنوان الجدل المعطل، "من هو الديمقراطي ومن هو الكافر" والكلفة كانت دماً، أما في التجربة القائمة فيتخذ الجدل المعطوب عنوانا آخر "من هو الوطني ومن هو العميل"، وقد تكون الكلفة تمزقاً جغرافياً. وفي الحقيقة لا ينتظر النظام السياسي فرصة أفضل من هذه، ليجدد هو أيضاً أداءه، ويقدّم نصف بيضة لكل طرف مع أن البيضة لا تقسم على اثنين، وتبقى كلها بيد النظام.

دلالات

المساهمون