ساندرز يسدل الستار: الحركة اليسارية تخسر مشروعها الرئاسي

ساندرز يسدل الستار: الحركة اليسارية تخسر مشروعها الرئاسي

10 ابريل 2020
حافظ ساندرز على خطابه طيلة 30 عاماً (بيل بوغليانو/Getty)
+ الخط -

ليس تفصيلاً في الحياة السياسية الأميركية، أن يُسدل المرشح اليساري بيرني ساندرز الستار على حملته الرئاسية الأخيرة، وعلى آخر محاولاته لإصلاح النظام الرأسمالي. هذا السقوط التراجيدي لرمز الحركة اليسارية الأميركية، سيدخل التاريخ في سردية مرشح فاجأ الجميع بتصدر الانتخابات التمهيدية فور عودته من أزمة قلبية، قبل أن ينسحب من السباق الرئاسي في لحظة تحقيق حلمه القديم، عند تحول أميركا الموقت إلى نظام شبه اشتراكي يستوعب تداعيات فيروس كورونا. ساندرز سيبقى في الذاكرة الأميركية هذا المرشح المستقل الذي نقل الحزب الديمقراطي إلى اليسار، كما سيبقى ملهماً لأجيال جديدة من القيادات الليبرالية، لكن الخيارات والسياسات التي صنعت صعوده السياسي، كانت أيضاً وراء سقوطه الانتخابي المحتوم.

لم يكن ساندرز يوماً أقرب إلى نيل ترشيح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة كما كان بداية العام الحالي، حين وقف على مشارف قلب الطاولة وتغيير معادلات المعسكر الليبرالي، لكن عوامل كثيرة ساهمت في انهيار حملته التدريجي، منها التفاف التيار الوسطي حول نائب الرئيس السابق جو بايدن، وشعبية ساندرز المتدنية بين الأفارقة الأميركيين، وصراع الأجنحة داخل حملة المرشح اليساري الذي أصّر على رفع شعار الاشتراكية والمواجهة، بدل محاولة اعتماد خطاب يوسع رقعة قاعدته الانتخابية. القاعدة اليسارية والتقدمية تشعر بخيبة الأمل والحيرة بين ضرورة هزيمة الرئيس دونالد ترامب، وبين عدم وجود حماسة انتخابية لبايدن، والأهم من ذلك، لا يزال هناك شعور دفين داخل هذه القاعدة اليسارية بأن المؤسسة التقليدية في الحزب الديمقراطي قطعت الطريق عمداً على مرشحها.

الانسحاب من السباق لم يكن قراراً سهلاً بالنسبة لساندرز. مع تراجع حظوظه بقدرة الفوز حسابياً، دخلت حملته أخيراً في مرحلة تأمّل، اتخذت خلالها إجراءات تكتيكية لمحاولة الحد من خسائرها، والبقاء في السباق أطول فترة ممكنة، للتأثير على خطاب الحزب الديمقراطي، أو انتظار تعثر ما مفاجئ لحملة بايدن. الرهان الأول كان على المناظرة الرئاسية الثنائية بين الرجلين الشهر الماضي، بعدها كانت هناك محاولة تأقلم مع انتشار فيروس كورونا، الذي خطف كل الأنظار وترك حملة ساندرز من دون أي قدرة فعلية على اجتذاب انتباه الناخب الأميركي. وبعدما أعلنت الحكومة الفيدرالية في 15 مارس/آذار الماضي عن توجيهات التباعد الاجتماعي في الولايات المتحدة، خسرت الحملة فرصة تنظيم مهرجانات انتخابية، فيما الاقتراع شبه معطل في المدى المنظور. توقف الحركة الاقتصادية أدّى أيضاً إلى تراجعٍ في التبرعات الانتخابية، ما يعني استنزافاً مالياً لساندرز، مع عدم قدرة على دفع رواتب موظفي الحملة، في وقت ازدادت فيه ضغوط الانسحاب من داخل فريقه، بعد النتائج الأولية لانتخابات ولاية ويسكونسن يوم الثلاثاء الماضي، التي كرّست صدارة بايدن. في ظلّ غياب القدرة على إيجاد زخمٍ انتخابي أو الحفاظ على نفوذ كافٍ للضغط على بايدن، كان انسحاب ساندرز مسألة وقت وقراراً محتوماً.

يحاول الحزب الديمقراطي في هذه الفترة توفير الحدّ الأدنى من الوحدة الداخلية في المواجهة المقبلة ضد الرئيس دونالد ترامب، من أجل تفادي تكرار سيناريو انتخابات العام 2016، التي شهدت معركة ضارية بين ساندرز ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون. الرئيس السابق باراك أوباما يلعب دوراً جوهرياً في هذا الاتجاه، بعدما أجرى أكثر من اتصال بساندرز خلال الأسابيع الماضية. بايدن أيضاً تفادى خلال الفترة الأخيرة أي ضغط على ساندرز للانسحاب من السباق، وحتى اتصل بالمرشح اليساري الأسبوع الماضي ليعتذر عن قراره المضي قدماً في مسار ملء منصب نائب الرئيس قبل انتهاء الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي. ما يساعد على عدم تكرار سيناريو 2016، هو الزمالة التي استمرت لعقود في مجلس الشيوخ بين بايدن وساندرز، زمالة جعلت كلاً منهما يرفض التهجم الشخصي على الآخر، على الرغم من إلحاح مستشاريهما في بعض الأحيان. ساندرز رفض خلال الحملة وصف بايدن بأنه "فاسد"، وعند إعلان قرار انسحابه، وصف نائب الرئيس السابق بأنه "رجل محترم للغاية، وسأعمل معه لدفع أفكارنا التقدمية إلى الأمام". بايدن أصدر بياناً بعد الانسحاب، أفرط فيه بالثناء على ساندرز، وحتى استخدم تعابير المرشح اليساري، إذ قال "بيرني قام بشيء نادر في السياسة. لم يدر حملة سياسية فقط، بل أوجد حركة".

لكن يبقى التحدي أمام نائب الرئيس السابق هو استقطاب قاعدة ساندرز، لا سيما جيل الشباب منهم. ساندرز لم يتخلَ عن كل أوراقه، ولن يحرر المندوبين الذين حصل عليهم حتى الآن (914 مندوباً)، وهذا يعني أنه غير مستعد للتخلي عن هذا النفوذ للتأثير على خطاب الحزب الديمقراطي في الانتخابات العامة. ساندرز فرض حتى الآن على الوسطي بايدن تبني سياسات يسارية في حملته، مثل فكرة التعليم المجاني في الجامعات الحكومية لمحدودي الدخل، فيما يتشارك الرجلان قضايا مثل التغير المناخي، لكن قد يكون هناك تباين في السياسات الاقتصادية والصحية، وسيحاول الطرفان إيجاد تسوية خلال الأشهر المقبلة حول هذه القضايا.

انسحاب ساندرز يطمئن التيار الوسطي بأن المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في مدينة ميلووكي في ولاية ويسكونسن، الذي تأجل إلى شهر أغسطس/آب المقبل، لن يشهد معارك سياسية، لكن هذا الأمر قد لا يمنع تكرار سيناريو الانتخابات العامة قبل أربع سنوات، أي يخرج ساندرز في تصريحات داعمة لحملة بايدن لكن القاعدة اليسارية تكون محبطة ولا ترى من حافز لها لتقترع يوم الانتخابات. وكما كان متوقعاً، حاول ترامب استغلال وتسليط الضوء على انقسامات الديمقراطيين في تغريدات عبر "تويتر"، اعتبر فيها أن المرشحة التقدمية السيناتورة إليزابيث وارن ساهمت في خسارة ساندرز، وأن قيادة الحزب الديمقراطي تكرر ما حصل عام 2016، مشيراً إلى أن ساندرز كان يجب أن يكون مرشحاً عن الحزب الجمهوري. من الواضح أن ترامب يحاول استقطاب مناصري ساندرز، لا سيما العمال في الوسط الغربي، عبر تعزيز الانقسامات بين الديمقراطيين وداخل التيار اليساري.

مرة أخرى، يخسر ساندرز أمام مرشح وسطي، لكن ينجح في تحويل الحزب الديمقراطي إلى أقصى اليسار. ما كانت أفكاراً راديكالية في العام 2016، أصبحت محور خطاب الليبراليين اليوم، إذ نجح بتطبيع الخطاب اليساري وجعله مقبولاً بين جيل جديد من الليبراليين. قوة ساندرز أنه حافظ على الخطاب نفسه على مدى 30 عاماً، لكن لم يسمعه كثر على المستوى الوطني، حتى جاءت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والركود الاقتصادي في العام 2008، لتمهّدا الأرضية لصعود ظاهرة ساندرز، لكن هذه أيضاً كانت نقطة ضعفه، لأنه لم يكن مرناً في تعديل خطابه، وقرر مواجهة بايدن بالأدوات ذاتها التي خاض فيها المعركة ضد هيلاري كلينتون.

تحدي الحركة اليسارية هو التعلم من دروس تجربة ساندرز الإيجابية والسلبية، أي تحديد ما إذا كان يجب الاستمرار برفع شعار الاشتراكية، أو الاكتفاء بالتركيز على السياسات، وإذا كانت المعركة مع المؤسسة التقليدية في الحزب الديمقراطي وداعميها من الشركات الأميركية يجب أن تستمر أو أن التسوية ممكنة في المرحلة المقبلة، وإذا ما كانت الاستراتيجية يجب أن تكون تحشيد القاعدة اليسارية أو إيجاد خطاب متوازن يستقطب مؤيدين من المستقلين والوسطيين، أو حتى من اليمين. لكن الاتجاه أن هذه المعركة مستمرة.

كما يأتي انسحاب ساندرز في لحظة مفصلية في التاريخ الأميركي. فيروس كورونا كشف عيوب نظام الرعاية الصحية كما نظام الأجور، وهي كلها عناوين حملته الرئاسية، كما استدعى هذا الوباء تدخلاً حكومياً غير مسبوق في الاقتصاد على المستوى الذي كان يطمح له المرشح اليساري. تداعيات فيروس كورونا قد تكون اتجاهاً لتعديل نظام الرعاية الصحية في أميركا وغيرها من الإصلاحات، لكن ساندرز لن يكون الرئيس الذي سيواكبها، بل سيكتفي بخوض معاركه من مقاعد مجلس الشيوخ. لكن سيبقى ساندرز في المدى المنظور ملهم الحركة اليسارية الأميركية، هذا الكهل الثائر الذي خاض آخر معاركه، ويسلم القيادة إلى جيل يساري جديد سيحمل مشعل المواجهة مع المؤسسة التقليدية في الحزب الديمقراطي. حملة ساندرز انتهت، لكن المعركة على هوية ومصير الحزب الديمقراطي لا تزال في بداياتها.

المساهمون