الفرجة التونسية

الفرجة التونسية

09 سبتمبر 2019
التحضيرات الانتخابية مستمرة في تونس(أنيس ميلي/فرانس برس)
+ الخط -

تبدو السياسة وجهاً متجهماً في الغالب، شعارات وأرقام وأيديولوجيا، وكثير من البؤس والكوارث والإخفاقات، وهي بالتأكيد مسألة جدية، لأنها تحدّد مصائر الناس ومستقبل أولادهم وتاريخ بلدانهم، لكنها تتحول لفترة قصيرة جداً إلى بعض المتعة أيضاً عندما تصبح مشهداً للرؤية وتنافساً يستمتع فيه المواطن بتقييم صاحب القرار ويشعر لأيام أنه يقلب المعادلة ويصبح هو الحاكم. "يتذلل" إليه المرشح ويستعطفه ويستميل مشاعره ويبذل كل ما في وسعه لإقناعه باختياره. وهو في الحقيقة جوهر الديمقراطية، لأن المواطن هو أصل السلطة ومصدرها الفعلي، يستعيدها كاملة مرة كل خمس سنوات، ويحدد من يراه للإدارة. ومع ما تعيشه تونس هذه الأيام من سباق انتخابي نحو قصر الرئاسة في قرطاج، وعلى ضوء المناظرات التلفزيونية التي انطلقت يوم السبت الماضي، وتستمرّ حتى مساء اليوم الاثنين، يعيش التونسيون تجربة جديدة تضاف إلى بقية ما عاشوه خلال سنوات الثورة، يثبّتون خطاهم نحو نادي الدول الديمقراطية ويفتحون عهداً جديداً يقطع نهائياً مع تاريخ المرشح الأوحد والزعيم المتفرد، وينهلون من ثمرات ثورتهم أحلاها وأمتعها وأعمقها: أن يمارس الشعب السلطة ويختار من دون خوف من خياره، متأكداً من أن أحداً لا يتلصص عليه وأن أحداً لن يلاحقه بسبب اختياره.

لم يكتف المجتمع المدني الحيّ في تونس بذلك، بل قدّم قاموساً انتخابياً في لغة الإشارة، يستهدف الصمّ ومحدودي السمع، وهو ما يرتقي بالتجربة الانتخابية ويقرّبها من كل الفئات والجهات ويوسع ممارستها تدريجياً. لكن هذه المتعة ممنوعة على كثير من العرب، ينعم بها التونسيون ويُغبطون عليها بالتأكيد من شعوب أخرى ترى أنها جديرة بذلك ومن حقها أن تعيش المتعة ذاتها، وتُمارس سلطتها في اختيار من يمثلها، ولكن ثمن ذلك باهظ، دفع التونسيون أقلّه بحسب المراقبين مقارنة بشعوب أخرى لا تزال تتجرع المرّ من أجل حريتها وكرامتها وتطمح أن تنعم بما ينعم به التونسيون هذه الأيام.

لكن هذه المتعة الديمقراطية لا تخفي مخاوفها من السقوط في الشعبوية، لأن تحوّلها إلى لحظة مشهدية واختصارها في ذلك، سيكرّس الممثلين والمهرجين وأصحاب الصوت الجميل وربطة العنق الأنيقة، وقد يجرّدها من عقلها، بينما تحتاج البلاد عقلاً صاحياً بالدرجة الأولى وإن كان رديئاً مسرحياً.