مصر: استقالات في القضاء والنيابة احتجاجاً على تدخلات النظام

مصر: استقالات في القضاء والنيابة احتجاجاً على تدخلات النظام

28 فبراير 2019
تضييق كبير على عمل القضاة (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
كشفت مصادر قضائية في وزارة العدل ومحكمة النقض، لـ"العربي الجديد"، أن "العام القضائي الحالي 2018-2019، شهد استقالة أكثر من 40 قاضياً وعضو نيابة عامة لأسباب مختلفة، لكنها مُجمعة على الغضب من طريقة تسيير مرفق العدالة، والتدخّلات الحكومية المستمرة في عمل القضاة". وأكدت المصادر أيضاً أن "النيابة العامة تشهد في عهد النائب العام الحالي نبيل صادق أكبر موجة استقالات".

وعكست الاستقالات حقيقة أن المجتمع القضائي المصري مليء بالغضب جراء ممارسات وخطوات النظام في سبيل السيطرة التامة على السلطة القضائية، بدءاً من إصدار القانون الذي منح الرئيس عبدالفتاح السيسي سلطة اختيار رؤساء الهيئات القضائية في إبريل/نيسان 2017، وصولاً إلى التعديلات الدستورية التي عصفت باستقلالية المحكمة الدستورية العليا ومجلس الدولة، وأعادت تشكيل المجلس الأعلى للهيئات القضائية برئاسة السيسي والذي سيديره فعلياً وزير العدل حسام عبد الرحيم، حارماً الهيئات من استقلالية مخصصاتها المالية معداً إياها تحت رحمة الوزارة.

كما لا يشعر القضاة بالارتياح إزاء إجبار كل الهيئات على أن يتلقى الخريجون الجدد المرشحون للعمل فيها، دورات تدريبية في الأكاديمية الوطنية التأهيلية للشباب، التي تسيطر عليها دائرة السيسي المخابراتية-الرقابية، ويدرس الملتحقون بها مناهج عسكرية واستراتيجية. وهي الدورات التي التحق بها بالفعل المختارون للالتحاق بهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة، وحاول كبار المستشارين في القضاء ومجلس الدولة التملّص من هذا الالتزام، حفاظاً على ما تبقّى من مهنية القضاة الشبان ومنع الدفع بأجيال جديدة من القضاة لا يدينون بالولاء للعدالة، بقدر تبعيتهم المطلقة لرئيس الجمهورية وأجهزة الدولة التنفيذية.

ومما يزيد من حالة الغضب تجاه عدد من شيوخ القضاة في المحاكم المختلفة، مهادنة النظام بأشكال شتى، تارة بتوجيه القضايا الحساسة إلى دوائر بعينها لتصدر فيها أحكاماً معينة، كالقضايا الجنائية التي تهم الرأي العام وترتبط بأحداث العنف السياسي والإرهاب، وتارة بالتوجه نحو الإدانة السياسية الانتقامية وبوتيرة أخف أحياناً مما تصدره المحاكم العسكرية من أحكام في قضايا مشابهة.

وتُرجم هذا الغضب من خلال الاستقالات، سواء من قبل القضاة أو أعضاء النيابة العامة. وفي السياق، أوضحت المصادر أن الاستقالات التي شهدتها النيابة العامة في عهد النائب العام الحالي نبيل صادق، تعد أكبر موجة استقالات، ربما في تاريخها، لأسباب عدة، أبرزها ضيق شباب النيابة بتلقي التعليمات المباشرة من رؤسائهم بصورة تتعارض مع ضميرهم المهني ونصوص القانون، وعدم قدرتهم على العمل بالحرية المهنية اللازمة للقاضي، بزعم أن النيابة العامة وظيفة تراتبية ويعود فيها القرار للمناصب العليا.


السبب الثاني وراء استقالات النيابة، هو رفض طلبات العديد من القضاة الشباب السفر إلى الخارج لحضور دورات تدريبية وتعليمية في مجالات مختلفة من القانون، أو محاولة السيطرة على القضاة الذين يسافرون خارج البلاد لحضور تلك الدورات بواسطة الأمن، في ظل اتجاه شباب القضاة وأعضاء النيابة للتعرف على الثقافات القانونية في الدول الأخرى، وتوالي حصول وزارة العدل على منح لتسفير الشباب إلى الخارج أو الحصول على دورات تعليمية بجامعات أجنبية.
أما القضاة الأكبر سناً والأعلى منصباً، والذين يفترض أنهم أكثر استقلالاً من أعضاء النيابة، فبحسب المصادر، واجهوا عدة تغيرات دفعت العشرات منهم للاستقالة في العامين الماضيين، أبرزها تعرضهم لتدخّلات في عملهم من رؤسائهم الإداريين ومحاولة توجيههم لاتخاذ قرارات معينة في بعض القضايا، حتى غير المهمة، على الرغم من أن رؤساء المحاكم لا يمنحهم القانون أي سلطة على تحديد حكم أو قرار القاضي الفرد أو الدائرة القضائية.

والسبب الثالث هو التضييق على القضاة والضغط عليهم لتحقيق أرقام كبيرة في إنجاز القضايا، وهذا السبب يعكس مشاكل بشأن سياسة جديدة في المحاكم، هي وضع هدف رقمي محدد لكل دائرة من القضايا للفصل فيها خلال السنة القضائية التي تمتد من أكتوبر/تشرين الأول إلى يونيو/حزيران. فعلى الرغم من أن بطء العدالة كان وما يزال من المشاكل الأساسية في القضاء المصري لأسباب كثيرة، منها قلة عدد القضاة والخبراء الفنيين وضعف أدوات السيطرة على الجهات الإدارية في المنازعات التي تنشب بينها وبين المواطنين، إلا أن تحديد هدف رقمي معين من القضايا المراد إنجازها بات يؤدي إلى "التسرع" الذي لا يضمن تحقيق العدالة.

وأوضحت المصادر أن هذه السياسة لم تكن من أفكار وزير العدل أو مجلس القضاء الأعلى، بل بتعليمات من السيسي شخصياً، ولا يشرف على تنفيذها التفتيش القضائي في الوزارة، والمختص أساساً بمتابعة عمل القضاة ومسلكهم داخل وخارج المحاكم، بل تختص به لجان من الرقابة الإدارية ومجلس الوزراء. هذا الأمر أثار غضب عشرات القضاة الذين حُملّوا مسؤولية إرضاء لجان لا تهتم إلا بالرقم المستهدف، بغض النظر عن نوع القضايا، ويرى هؤلاء أن هذه السياسة على المدى الطويل ستُفقد المواطنين الثقة في المحاكم، لأن الأحكام تصدر ضعيفة من دون أسناد كافية ويسهل إلغاؤها في درجات الاستئناف والنقض.

أما على مستوى الدرجة العليا، وهي محكمة النقض، والتي تورطت أخيراً في تأييد العديد من أحكام الإعدام في قضايا العنف السياسي، فكشفت المصادر عن تنامي الاتجاه بين القضاة لترك العمل في الدوائر الجنائية، والانتقال للعمل في الدوائر المدنية، احتجاجاً على سياسة المحكمة المتشددة، والتعديلات التشريعية التي باتت تؤدي إلى صدور الحكم من دون قناعة كاملة بتحقق العدالة، وهروباً من الضغوط التي تمارس على القضاة لإنهاء قضايا بعينها على عجالة.
وأوضحت المصادر أن هذا الاتجاه بدأ منذ عمد رئيس المحكمة الحالي المعين باختيار السيسي لا الأقدمية، المستشار مجدي أبو العلا، إلى تفريغ دوائر معينة، معظمها يرأسها قضاة كانوا يعملون معه سابقاً، للنظر في قضايا العنف السياسي والإرهاب والإدراج على قوائم الإرهاب، بعدما كانت القضايا توزع بشكل شبه عشوائي على كل الدوائر الجنائية.

والتزم القضاة بشكل عام، الصمت إزاء مشروع التعديلات الدستورية الجديدة التي تسلّط رقابة السيسي على القضاء وتسلب كل المكاسب التي حصل عليها القضاة بعد ثورة 2011 والتي تصب معظمها في صالح دعم ضمانات العدالة، لكن نادي مجلس الدولة دعا إدارة المجلس للتحرك ضد التعديلات التي وصفها بغير الشرعية والتي تنال من استقلال القضاء، كما نقلت مصادر لـ"العربي الجديد" بداية الشهر الحالي تداول دعوات لمقاطعة الإشراف على استفتاء التعديلات الدستورية.