فرنسا: ماكرون بين التنازل أو النهاية المبكرة

فرنسا: ماكرون بين التنازل أو النهاية المبكرة

08 ديسمبر 2019
خرج أكثر من مليون فرنسي ضد المشروع (جوليان ماتيا/الأناضول)
+ الخط -
يواجه عهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مرة جديدة، استحقاقاً بالغ الصعوبة، بعدما أشعلت محاولة حكومته "إصلاح" نظام التقاعد غضباً شعبياً كبيراً، تُرجم بخروج مليون مواطن إلى الشارع، يوم الخميس الماضي، وفق أرقام رسمية. هذا المأزق الجديد الذي وجد ماكرون نفسه فيه، والذي قد يهدد فرصته بولايةٍ ثانية، وتترقب المعارضة مآلاته، قد لا يجد مخرجاً منه سوى بذهاب حكومة إدوار فيليب إلى خيار التفاوض وتقديم التنازلات، ما يعني أن مشروع التقاعد، في حذافيره وتوقيته، كما أراده الرئيس، لن يمر.

مأزق نظام التقاعد

بعدما استطاعت الحكومة الفرنسية أن تطوي إلى حدّ كبير، صفحة "السترات الصفراء"، إثر "حوارٍ وطني كبير" كان منهكاً ورتيباً، وضخّت على أثره أكثر من 17 مليار يورو لاسترضاء فئات مجتمعية مختلفة، وبعدما نجحت بتمرير إصلاحات في قانون العمل، ثم إصلاح سكك الحديد بسلاسة، جاء الدور هذه المرة للاصطدام بإصلاح نظام التقاعد. ولطالما كانت محاولة إصلاح هذا النظام عصّية على حكومات فرنسية عدة، إذ مع كل محاولة للتحرك من جانب السلطة، يأتي رفض النقابات حاسماً، خصوصاً مع وجود 42 نظام تقاعد في فرنسا، ما يجعل الأمر في نهاية المطاف لا يتمخض سوى عن بعض التعديلات.

بدوره، يكتشف ماكرون، الذي يسعى لـ"دخول التاريخ" باعتباره الرئيس الذي تمكن من إنجاز هذا الإصلاح المنتظر منذ عقود، اليوم، مع حكومته، أن مسألة إصلاح نظام التقاعد ليست بهذه السهولة، على الرغم من أن المشاورات حولها انطلقت قبل أشهر، وعلى الرغم من الضغوط الكبيرة التي مورست على النقابات العمالية لإقناعها بضرورة الإصلاح، وبأنه يتوجب على الفرنسيين العمل لمدةٍ أطول، على غرار بقية الأوروبيين. هذه الضغوط لم تتورع عن الذهاب بعيداً، بما في ذلك في محاولتها شقّ وحدة الصف النقابية.

ولم يقف فشل ماكرون على مسار التفاوض والضغوط. فعلى الرغم من محاولاته الحثيثة، لم يتمكن الرئيس من إقناع الفرنسيين بأن التظاهرات المعارضة للمشروع، والإضرابات المرتبطة به، هي حراكٌ يهمّ فقط الوظيفة العامة في البلاد، والتي تتمتع بامتيازاتٍ تغيب عن القطاع الخاص، الذي خرج الكثير من عماله أيضاً للتظاهر. واعتبر الإضراب والاحتجاج انتصاراً كبيراً للنقابات، بعدما خرج إلى الشارع ما يقرب من مليون فرنسي، وفق إحصاءات وزارة الداخلية، ونحو مليون ونصف المليون بحسب إحصاء نقابة الكونفدرالية العامة للعمل "سي جي تي". هذا الانتصار اعترفت به الحكومة نفسها، خصوصاً أن الإضراب لا يزال متواصلاً ويشل الحركة ويزعج حركة تنقل المواطنين. وجاء فشل ماكرون مضاعفاً، بعدما كان قد أهان في بداية ولايته الرئاسية هذه النقابات، فيما يسعى اليوم إلى استمالتها.

من جهتها، ترى النقابات العمالية الفرنسية أن هذه التظاهرة سيكون لها ما بعدها، ما يعني أن البلاد مقبلة، في حال إصرار الحكومة على تنفيذ مشروعها، على احتجاجات أخرى، على الرغم من اقتراب فترة الأعياد وسط مخاوف التجار من خسائر كبيرة، ومن احتمال عزوف السياح عن زيارة فرنسا والإنفاق فيها.

والغريب أنه على الرغم من الخلافات المعلنة بين النقابات العمالية والحكومة، ومئات البرامج والتجمّعات التي نُظّمت حول مشروع قانون الإصلاح، إلا أن مسودة المشروع غير متوفرة وغير معروفة من قِبل هذه النقابات ولا من عموم الشعب. وبينما كانت الحكومة تراهن على مواصلة النقاشات مع النقابات حول الإصلاح بعد تظاهرة الخامس من ديسمبر/ كانون الأول الحالي (الخميس الماضي)، التي راهنت أيضاً على إمكانية فشلها، صرّح رئيس الحكومة إدوار فيليب، أول من أمس الجمعة، بأنه سيكشف يوم الأربعاء المقبل عن المشروع "بكامل عناصره"، وحينها سيُنظَّم النقاش حول "مقترحات واضحة"، مشدّداً على أنه لا يحبذ "منطق المواجهة".

ويبدو من تصريح فيليب أن حكومته عازمة على تقديم تنازلات لم تكن في حسبانها قبل تقديم مشروع الإصلاح أمام المجلس الحكومي بداية 2020. وبالإضافة إلى كلام فيليب، أكدت المتحدثة باسم الحكومة سيبيت ندياي "وجود هوامش مفاوضات مع النقابات"، و"باب الحكومة مفتوح". ومن بين هذه التنازلات، تأجيل الوصول إلى توازن نظام التقاعد عام 2025، وأيضاً ألا يشمل الإصلاح جيل 1963، كما كان مقرَّراً، بل يتم تأجيله إلى جيل 1973، وإلى ما بعد هذا التاريخ في ما يتعلق بأنظمة التقاعد الخاصة وبعض فئات الموظفين، وهو ما يعني أن القانون لن يكون سارياً قبل العام 2035.


مخاوف ماكرون

على الرغم من تسويقه لإصلاح التقاعد، ومن النقاشات الكبيرة التي شارك فيها حوله، مُطمْئِناً إلى نتائج المشروع وعدالته، ومحذّراً من تداعيات غيابه على الأجيال المقبلة، إلا أن ماكرون يدرك أن الفرنسيين لا يشاطرونه القراءة نفسها، وأنه إذا لم يقدم تنازلات قد تساهم في شق الوحدة النقابية، وتهوي بشعبية الإضرابات وبرأسمال التعاطف مع المضربين، فإن مشروعه سيفشل، ما قد يضعف حظوظه بولاية رئاسية ثانية.

وتأتي هذه الأزمة فيما شعبية الرئيس الفرنسي دون الـ30 في المائة، وفق آخر استطلاع للرأي، وهي تقف تحديداً عند 29 في المائة، مسجّلة ازدياداً في المقابل لدى الفئات اليمينية، أي على حساب حزب "الجمهوريون" واليمين المتطرف. وتجعل هذه الشعبية المتزايدة لماكرون لدى الناخبين اليمينيين، وهو الذي وصل إلى السلطة بشعار "لا يمين ولا يسار، أو بهما معاً"، من بقاء وزرائه القادمين من اليمين أكثر من ضروري، خصوصاً رئيس الحكومة إدوار فيليب، الذي يُعتَبَر ضمانة اليمين في هذه الحكومة، إضافة إلى وزيرين مهمين، هما وزير الاقتصاد برونو لومير ووزير الحسابات العامة جيرالر دارمانيه.

المخرج الممكن

ولكن ما هو المخرج المحتمل للسلطة أمام هذا الواقع المعقد؟

لا تملك الحكومة الفرنسية إلا التفاوض سبيلاً للخروج من الأزمة، في ظل نجاح الإضراب وتواصله، وانضمام قطاعات أخرى إليه، مثل سائقي الشاحنات، القادرين على شلّ الحركة والاقتصاد، في انتظار انضمام المزيد من المضربين. ويأتي ذلك مع تواصل الإزعاج الذي تمثله "السترات الصفراء"، ما يعني صعوبة تمرير مشروع التقاعد بحذافيره وتوقيته، وكما أراده ماكرون.

ولا يستطيع الرئيس الفرنسي استبدال حكومته، ولا وزرائه الرئيسيين، لأسباب كثيرة، منها أن حركته "الجمهورية إلى الأمام" لا تتوفر على عناصر كفوءة وقادرة على خلق اختراق سياسي كبير. ولعلَّ أكبر دليل على ذلك، فشل ماكرون في إيصال مرشحته، سيلفي غولار، في المفوضية الأوروبية، وأيضاً تورط حليفه الأكبر، فرانسوا بايرو، رئيس حزب "موديم" اليميني الوسطي، في قضايا فساد، بعد توجيه الاتهام إليه أول من أمس الجمعة.

نظرة الإعلام

فيما قرأت وسائل الإعلام العالمية أحداث فرنسا الأخيرة باعتبارها تأكيداً على "روح الفرنسيين الثورية والمتمردة"، وعلى رفضهم سياسات غير شعبية لرئيس دولة ينظر إليه كثير من مواطنيه على أنه "رئيس الأثرياء"، وأنه "كلما فتح فمه أهان مواطنيه"، انقسم الإعلام المحلي حول رؤيته للإضراب ولمشروع إصلاح نظام التقاعد. الإعلام المرئي الفرنسي تحدث في غالبيته عن ضرورة إقرار الإصلاح، متعاملاً بنفور مع المتظاهرين، ومهيناً ومحرجاً ضيوفه من مؤيدي الإضراب، مكتفياً بتسليط الضوء على "الضحايا" الفرنسيين الذين يواجهون صعوبة في التنقل، خصوصاً إلى عملهم.

وحاول الإعلام المرئي الفرنسي خصوصاً، جاهداً، إظهار "أنانية" النقابيين، وأيضاً "أنانية" القطاعات "التي تحاول الحفاظ على امتيازاتها، ولا تريد الوصول إلى نظام تقاعد شامل ومتضامن". وذهبت صحف يمينية عدة، مثل "لوفيغارو" و"لوبينيون"، في هذا الاتجاه، وكذلك مواقع إلكترونية، كـ"أتلانتيكو" و"فالور أكتويال" وغيرها.

في الضفة الأخرى، حاولت وسائل الإعلام المملوكة من الدولة الإمساك بالعصا من الوسط، عارضةً مختلف وجهات النظر. من جهتها، دافعت الصحافة والمواقع اليسارية الفرنسية عن المضربين، منتقدة "رئيساً ليبرالياً يريد إفقار الفرنسيين وضرب جيوبهم كلّما توفرت الظروف". ولعل مثال "ميديابارت" و"لومانيتيه" و"ليبراسيون" دليلٌ على عدم سقوط كل وسائل الإعلام في شَرَك الحكومة. وفي هذا السياق، برز عنوانا مقالتين لمدير صحيفة "ليبراسيون"، لوران جوفران. الأول تحدث عن "شبَح يطارد الماكرونية"، قاصداً إضراب 1995، الذي اضطرت الحكومة في حينه لسحب مشروع إصلاحها، فيما رأى العنوان الثاني أن "النقابات تثأر لنفسها"، في إشارة إلى الهجوم والإقصاء الذي تعرضت له النقابات العمالية في فرنسا ببداية ولاية ماكرون، وكيفية استعادتها اليوم لبعض زخمها وحيويتها.

أين المعارضة؟

في هذه الأثناء، تراقب مختلف المعارضات لحكومة ماكرون الأوضاع، في ظل الاحتجاج الذي استطاع دفع بعض المواطنين للتظاهر للمرة الأولى، ليوحّد رفض إصلاح نظام التقاعد كل خصوم الرئيس، محاولين استغلال هذه الفرصة المتاحة.

وإذا كان مفهوماً أن يحاول اليسار الفرنسي استعادة بعض وهجه، بعد النزيف الذي ألحقه به ماكرون، ما تجلى في دعمه الإضراب ومشاركة زعماء له في التظاهرات من الخلف، فالمثير للدهشة إعلان رئيسة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، مارين لوبان، التي ترفض عادة دعم الحركات الاجتماعية، وقوفها هذه المرة إلى جانب الحراك الاجتماعي.

وليس غريباً أن تكون لهذا الدعم، من قِبل الزعيمة اليمينية المتطرفة، علاقةٌ بالتأييد والاحتضان الذي يحظى به الإضراب من قِبَل أغلبية الفرنسيين، لكونه استحقاقاً يهم معظم فئات الشعب. هذا الدعم تريد منه لوبان تحسين وضعيتها كمنافسة وحيدة، حتى الآن، لماكرون، في استحقاق 2022 الرئاسي، آملةً هذه المرة بالنجاح. لكن حتى الآن، ومع غياب منافس يجمع ما بين الشعبية والكاريزما، ويستطيع إفساد مواجهة مقبلة متوقعة بين ماكرون ولوبان في رئاسيات 2020، لا يزال الرئيس الفرنسي قادراً على إيلام مواطنيه، بإصلاحاته، من دون أن يخشى استحقاقاً رئاسياً لا يزال حتى الآن يقف فيه في موقع قوة.

دلالات