"سردين" إيطاليا يواجه الفاشية: يسارٌ بحلّة جديدة؟

"سردين" إيطاليا يواجه الفاشية: يسارٌ بحلّة جديدة؟

18 ديسمبر 2019
تعلن الحركة عن نفسها بأنها مناهضة للفاشية (باتريسيا كورتيليسا/Getty)
+ الخط -

لا يقول الباحث في علم الاجتماع، الإيطالي ماسيميليانو باناري، في صحيفة "لاستامبا"، سوى ما يردده الكثيرون من الباحثين في علوم السياسة والاجتماع، منذ مدة: "تشهد السياسة حالياً عودةً إلى احتلال المساحات العامة من قبل أشخاص من لحمٍ ودم. هؤلاء ليسوا فقط من أنصار الشعبوية. من يحتلون الشوارع اليوم، يريدون خصوصاً ملء الفراغ الذي يخلفه عدم الرضى الشعبي من الأحزاب التقليدية". يأتي كلام باناري، تعليقاً على ظهور حركة السردين في إيطاليا، المعادية للفاشية، والمعارضة لسياسة اليمين المتطرف ممثلاً بحزب ماتيو سالفيني، "ليغا" (الرابطة). الحركة، التي تتخذ من السردين تسميةً لها، نظراً لملء متظاهريها الساحات بما يشبه علب سمك السردين، وتجمع هذا النوع من الأسماك الصغيرة بطريقة تحميها من الأعداء، بالكاد بلغت شهراً من عمرها، لكنها تمكنت من حشد آلاف المتظاهرين في عدد من الساحات الإيطالية، أهمها يوم السبت الماضي في ساحة سان جيوفاني في العاصمة روما (100 ألف مشارك). ولا يزال من المبكر الحديث عن مدى قدرة هذه الحركة على مقارعة شعبوية اليمين المتطرف المُهيمن في إيطاليا، حيث يبدو المشهد السياسي فوضوياً، ومأزوماً، لكن عدداً من التعليقات بدأت تجمع أنها قد تشكل التهديد الأكبر لتيار سالفيني، الذي ردّ عليها بقوله إنه يفضل القطط، "التي تأكل السردين عندما تشعر الجوع".

وفيما يعيش اليسار الأوروبي أزمته التي فاقمتها موجات الهجرة عبر البحر المتوسط، خصوصاً مع اندلاع الحربين في سورية وليبيا، واحتلال قضية الهجرة حيّزاً رئيسياً في السجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الدائرة في القارة العجوز، ما ساهم في تعزيز حضور اليمين المتطرف، كان لافتاً خروج حركة السردين، التي ينتمي مؤسسوها إلى تيار اليسار، وتمكنها من الحشد الكثيف، في بلدٍ أصيب بحمى التطرف اليميني الذي بات مهيمناً على سياسته، وحيث يتنافس سالفيني في خطاب العنصرية الأوروبية مع زعماء أوروبيين آخرين، مثل رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان وزعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن. وقد يكون ظهور حركة السردين، رداً على خطاب سالفيني العنصري والفاشي والمعادي للآخر، بالدرجة الأولى، لكن الكثيرين يربطونه، تماماً كما يرى باناري في صحيفة "لاستامبا"، بـ"صحوة الشارع" التي ليست أوروبا بعيدة عنها. أولاً، لا تزال حركة السترات الصفراء ناشطةً في فرنسا، على الرغم من تراجع زخمها، تُضاف إليها موجة احتجاج وإضراب غير مسبوقة منذ أكثر من عقد ضد قانون التقاعد الذي تطرحه حكومة إيمانويل ماكرون. وإليها، تنضم حركتان بقيتا في الظل، ولم تحظيا بكثيرٍ من الشهرة: حركة الثورة على الانقراض (إكستنشن ريبيليون) المهتمة بالمناخ، والتي ولدت في المملكة المتحدة في عام 2018، وتحذر من الانهيار البيئي، وكذلك حركة "أيام الجمعة للمستقبل"، التي أطلقتها الناشطة السويدية الشابة غريتا نوبرغ، العام الماضي من استوكهولم، للمطالبة بالتزام مكافحة التغيّر المناخي. ويعيد كذلك الكثير من الخبراء كل هذه الحركات، التي تخرج، وقد تخبو لاحقاً، إلى الحدث الأول، المتمثل بحركة "احتلوا" Occupy، التي قد تكون جميعها من التداعيات التي لا يزال صداها يتردد في عواصم العالم منذ الركود الاقتصادي في عام 2008.


انطلاقة مفاجئة

لم يكن ماتيا سانتوري، ابن الـ32 عاماً، يتوقع أن تلقى دعوته لبعض الأصدقاء، الذين لا يتخطى عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، إلى التجمع في مدينة بولونيا شمال إيطاليا، منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي هذا الصدى. كان سانتوري يرغب في حشد هؤلاء، عشية تجمّع ضخم كان يُعدّ له أنصار سالفيني، قبل أقل من شهرين على انتخابات محلية حاسمة في منطقة إيميليا رومانيا. ويرغب سالفيني في الفوز للمرة الأولى في هذه المنطقة، في انتخابات محلية مرتقبة في 26 يناير/ كانون الثاني المقبل، بعدما حقق فوزاً في مقاطعة أومبريا. في هذه الأثناء، كان غضب سانتوري ورفاقه مفهوماً: إذا ما قُدّر لـ"ليغا" الفوز في هذه المنطقة الصناعية الغنية، التي تعتبر في العادة معقلاً رئيسياً لليسار الإيطالي (تماماً كأومبريا)، فإن الخشية قد تتخطى ذلك، مع احتمال إسقاط الحكومة الوطنية، وعودة شبح الانتخابات التي قد تحمل الحزب الفاشي إلى فوزٍ كاسح.
أحد أصدقاء سانتوري، ومن المؤسسين لحركة السردين، أندريا غاريفا، يقول لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية: "لم نكن نريد أن نصحو بعد الانتخابات (المناطقية) لنتساءل كيف وصلنا إلى أن يربح حزب سالفيني هنا؟"، موضحاً أن الدافع للنزول إلى الشارع في بولونيا كان تحديداً "القلق بسبب استسلام الناس لخطاب الكراهية والأخبار المضللة، وعدم اهتمامهم بخطر الانتخابات المناطقية". وكانت المفاجأة للحركة انضمام أكثر من 12 ألف شخص إليها في تجمّعها الأول في مسقط رأسها.

وتدير إيطاليا اليوم حكومةٌ ائتلافية يقودها الحزب الديمقراطي ذو التوجه الاشتراكي الوسطي، الذي يكافح للفوز بشعبية ما، وحزب "خمس نجوم" الشعبوي، الذي كان يوماً بإمكانه أيضاً ملء الساحات الإيطالية، لكن نجمه خبا مع الوقت. وحكم الديمقراطيون منطقة إيميليا رومانيا منذ عقود، لكن مرشحهم اليوم يواجه منافسة حادة من قبل مرشح "ليغا"، حيث يتعادلان بنسبة الأصوات إلى الآن، بحسب استطلاعات الرأي.

هكذا، ومع شعور اليسار الشاب في المقاطعة بالخطر، انطلقت شرارة حركة السردين، التي تمكنت منذ شهر من حشد عدد من التظاهرات، من بولونيا إلى فلورانس وباليرمو وروما، ومن عقد اجتماعها الأول يوم الأحد الماضي، متحدثة عن عشر نقاط في برنامجها التي وعدت بالإفصاح عنه قريباً. وحتى الآن، لا تزال الحركة تسير من دون قائد، وعبر بيانات توجه من خلالها الدعوات إلى التظاهر عبر موقع "فيسبوك". كذلك فهي لا تتحدث عن برنامج سياسي، أو المشاركة في أي انتخابات، أو عن احتمال تأسيس حزب سياسي، لدرجة أن سالفيني نفسه، وبعض المعلقين في إيطاليا، اتهموا الحزب الديمقراطي بالوقوف وراءها. ورأى المعلق السياسي فرانشيسكو ميرلو في صحيفة "لا ريبابليكا"، أن "حركة السردين جعلت سالفيني متوتراً، لأن هؤلاء في النهاية هم من التيار اليساري الذي لا يرغب في التأثير، ولا يريد المواجهة". من جهته، اعتبر باولو فلوريس داركيس، في مجلة "ميكروميغا"، أن "نجاح السردين يظهر أن التحشيد الديمقراطي ينجح من دون الأحزاب اليسارية التقليدية"، وأن انضمام الحزب الديمقراطي "كان سيحدث رد فعل عكسياً، لأنه ينظر إليه في إيطاليا، كأحد أحزاب النخبة".

وكانت حركة "السردين" قد بحثت في مؤتمرها الأول، يوم الأحد الماضي، استراتيجياتها المستقبلية، موردة على موقعها الرسمي، أنه يمكن تلخيص المؤتمر بكلمة واحدة هي "الحوار"، مؤكدة أن هذه "الكلمة تكفي"، وموضحة أن الحوار يشمل "الإصغاء، التعاطف، اللاعنف، وقبول التنوع"، طارحة نفسها بديلاً من "وحش النزعة السيادية". وأكد منظّمو المؤتمر أن الهدف "ليس اتخاذ القرارات أو قيادة التحرّك، بل تحفيز المشاركة" في التظاهرات المقبلة، وأولها في 22 ديسمبر/ كانون الأول الحالي في فرانكافيلا فونتانا، قرب برينديزي جنوب البلاد.

وشهدت الحركة الأسبوع الماضي، أول احتكاك مباشر مع أحزاب السلطة، حين عبّرت عن رفضها لمشاركة حزبي "فورستا نيوفا" و"كازا باوند" الفاشيين، في تظاهرتها في روما. وقال المؤسسون الأربعة للحركة (سانتوري وروبرتو موروتي وستيفن أوغونغو واندريا غاريفا)، إن "ساحات السردين لطالما أعلنت عن نفسها بأنها مناهضة للفاشية، وهي تعتزم البقاء كذلك"، وذلك رداً على تصريح لزعيم "كازا باوند" سيمون دي ستيفانو، الذي قال فيه إنه سيقبل دعوة زعيم "السردين" في روما، أوغونغو، إلى المشاركة في تظاهرة سان جيوفاني. وليس معروفاً سبب دعوة أوغونغو إلى الحركتين الفاشيتين، علماً أن جذور الحركة تعود إلى يوليو/ تموز الماضي، عندما تعرض الأخير شخصياً لتهديدات وإهانات، إثر نجاحه في إقناع موقع "فيسبوك" بشطب رسائل عنصرية من صفحة "سالفيني رئيس الوزراء".

مع هدفٍ أول هو مصالحة الإيطاليين مع السياسة، واستهداف المقاطعات الفقيرة التي قد تكون لقمةً سهلة لليمين المتطرف، لا يعتزم حركيو "السردين" بثّ خطابٍ تقسيمي في مواجهة خطاب الكراهية الذي يعلو صوته في إيطاليا. الابتعاد عن العنف، لا يزال السمة الأولى لهذه الحركة "الناعمة"، وسلاسة الأفكار والإطار. على الرغم من ذلك، تبقى قدرة التأثير في السياسة المحلية لهذه الحركة رهناً بقدرتها على تطوير أسلوبها، والتكيف مع متطلبات السياسة الإيطالية، التي لا يزال سالفيني نجمها الأول.

قادة بلا خبرة
يُعتبر ماتيا سانتوري (32 عاماً)، الذي أطلق الدعوة الأولى للتظاهر في مدينة بولونيا، شمال إيطاليا، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، المتحدث الرسمي باسم "حركة السردين". سانتوري، وهو مدرب رياضي وباحث في الطاقة البديلة، وأجرى دراسات في الاقتصاد والحقوق، وسافر كثيراً، ومارس مهناً متنوعة، يصفه تقرير لقناة "آر تي" بأنه النقيض التام لزعيم "ليغا" ماتيو سالفيني. بحسب القناة، لا يملك سانتوري أي خبرة سياسية، أو حتى إعلامية، لكنها وصفته بـ"السردينة التي تتنقل منذ شهر بلا كلل من وسيلة إعلام إلى أخرى"، وببراعة لافتة. يقول سانتوري إن رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني اكتشف التلفزيون، ومؤسس حركة "خمس نجوم" جوزيبي غريللو الإنترنت، وسالفيني "فيسبوك"، أما "حركة السردين" فقد اكتشفت الساحات العامة.
من جهته، يُعتبر ستيفن أوغونغو (45 عاماً)، ممثل الحركة في العاصمة روما، وهو من أصول كينية، ويعمل في الصحافة. أما أندريا غاريفا (34 عاماً)، فقد درس علوم التواصل، ويعمل دليلاً سياحياً، وروبرتو موروتي (31 عاماً)، مهندس بيئي. وفيما يتم في بعض وسائل الإعلام تداول أسماء هؤلاء الشبان الأربعة كمؤسسين لحركة السردين، تستبدل وسائل أخرى موروتي باسم جوليا ترابوليني (30 عاماً)، من مدينة سانسيبولكرو في مقاطعة أريتسو، شمال البلاد، وتعمل معالجة فيزيائية. في البيان الأول الذي أصدرته الحركة بعد تظاهرة بولونيا، دعا المؤسسون، الشعبويين إلى الخروج لـ"البحر المفتوح". وبحسب موقع "داون"، فإن البحر لن يكون مرتبطاً فقط بالنسبة لقارئي البيان من الإيطاليين المهتمين بالسياسة، بسمك السردين فقط، بل هو يرمز إلى المهاجرين وطالبي اللجوء والأعداد المخيفة من الأرواح التي فقدت في البحر في طريقها إلى السواحل الإيطالية. كما دعا البيان الأول إلى عدم استخدام المتظاهرين أي ألفاظ نابية أو إهانات لزعماء سياسيين.
وتتميز تظاهرات "السردين" خصوصاً بغناء "بيلا تشاو"، وهي أغنية ثورية معادية للفاشية من الحرب العالمية الثانية. لكن محللين سياسيين يبدون تشاؤمهم من قدرة "السردين" على تحقيق تغيير حقيقي. وبرأيهم فقد شهدت السنوات العشرين الماضية، ظهور عدد من الحركات ذات التوجه اليساري، ثم خفوتها، واختفاءها، أكثرها تشكلت ضد برلسكوني، وأشهرها حركة "بولو فيولا" (الشعب البنفسجي) التي دعت إلى استقالة برلسكوني حين كان رئيساً للوزراء، وكذلك الحركة النسائية "سي نو أروا كواندو" (إذا ليس الآن، فمتى؟)، رداً على اتهامات بالتحرش الجنسي وُجّهت لرئيس الوزراء الإيطالي الأسبق.




 

المساهمون