الحكومة البرلمانية في الأردن: عقبات تبقيها في مهدها

الحكومة البرلمانية في الأردن: عقبات تبقيها في مهدها

09 مايو 2016
الحكومة البرلمانية كانت مطلب المحتجين في 2011(خليل مزرعاوي/فرانس برس)
+ الخط -

في 10 أبريل/نيسان 1957 أطاح الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال رئيس وزرائه سليمان النابلسي بعد أقل من أربعة أشهر على تكليفه بتشكيل أول حكومة برلمانية في تاريخ الحياة السياسية الأردنية، بعد أن حصل الحزب الوطني الاشتراكي الذي كان يرأسه النابلسي على الأغلبية النيابية. الحكومة البرلمانية التي شكّلها النابلسي لم تكن الأولى فقط، بل الأخيرة أيضاً حتى هذا التاريخ، لتمثّل تجربة يتيمة ما زال يتحسر عليها القوميون الأردنيون حتى الآن، وهم الذين قادوا يوم الإطاحة بها تظاهرات غاضبة، لكنهم عجزوا، على الرغم من قوتهم التنظيمية وحضورهم الشعبي آنذاك، عن إجبار الملك على العودة عن قراره، الذي أعقبه فرض الأحكام العرفية التي استمرت حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، معطّلة الحياة السياسية وقاطعة الفرص أمام قيام الحكومات البرلمانية.
منذ الإطاحة بحكومة النابلسي وحتى قبل أعوام قليلة، انقطع الحديث عن الحكومات البرلمانية في الأردن، ولم يكن يرد ذكرها سوى في سياق النبش في التاريخ السياسي للمملكة، التي يحتكر الملك فيها دستورياً صلاحية منفردة في تعيين رئيس الحكومة وإقالته وقبول استقالته.
في العام 2011 دفعت موجة الاحتجاجات الشعبية التي عاشتها المملكة للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية، بالحكومة البرلمانية إلى الواجهة من جديد، حين أصبحت مطلباً رئيسياً للداعين للإصلاح، الذين طالبوا بتعديلات دستورية تقلّص صلاحيات الملك ومن بينها صلاحياته في تعيين رئيس الحكومة، لتصبح صلاحياته محصورة بتكليف زعيم الأغلبية النيابية بتشكيل حكومة برلمانية.
قاوم النظام بقوة ذلك المطلب، مدركاً أن تحقيقه سيؤدي إلى وصول جماعة "الإخوان المسلمين" الأكثر تنظيماً وتأثيراً، إلى الحكم نتيجة قدرتها على حصد الأغلبية النيابية في أية انتخابات حرة ونزيهة تجري في البلاد، وهو الهاجس الذي سبّب قلقاً لدوائر الحكم، خصوصاً بعد تمكّن جماعة "الإخوان" من الوصول إلى الحكم في مصر. ولم تكتفِ دوائر الحكم الأردنية بمقاومة مطلب قيام الحكومات البرلمانية، بل عملت لاحقاً على التضييق على جماعة "الإخوان المسلمين" وإذكاء خلافاتها الداخلية وصولاً إلى نزع الشرعية القانونية عنها لإضعافها وتحجيم تأثيرها في الشارع الأردني، وهو النهج ذاته الذي اعتُمد ضد القوميين في أعقاب الإطاحة بحكومة النابلسي.


غير أن المطلب الشعبي الذي صدحت به حناجر الناشطين، عاد ليرِدَ على لسان الملك عبدالله الثاني على اعتباره الطموح النهائي لرؤيته الإصلاحية التي صاغها لاستكمال التحوّل الديمقراطي في البلاد، والتي أطلق عليها "خطة الإصلاح المتدرج".
في خطاب العرش الذي ألقاه الملك عبدالله في افتتاح الدورة غير العادية لمجلس النواب السابع عشر في 10 فبراير/شباط 2013، وبعد أن قدّم توجيهاته السياسية والاقتصادية، قال إن "ما عرضناه من رؤى وخارطة عمل، هي متطلّبات التحوّل الديمقراطي، وهي قواعد لنهج إصلاحي، تتكامل فيه أدوار المجلس النيابي والحكومات البرلمانية، والمواطنين". ما قاله الملك عبدالله كان الإشارة الصريحة الأولى للتوجّه نحو إقامة الحكومات البرلمانية، وهو التوجّه الذي أعاد التأكيد عليه في خطابات العرش الثلاثة الأخرى التي ألقاها أمام المجلس نفسه.
وتحوّل كلام الملك في خطابه الأول بشكل تدريجي إلى رؤية متكاملة حدّدها في الخطابات الثلاثة اللاحقة، محدداً حزمة من القوانين التي يجب إقرارها بصورة إصلاحية كمقدمة للوصول إلى الحكومات البرلمانية، وهي قانونا البلديات واللامركزية، وقانون الأحزاب، وقانون الانتخاب، وهي القوانين التي جرى إقرارها جميعاً بشكل متتابع ومتباعد، وصاحَب إقرارها ابتهاج رسمي بتحقيقها كافة متطلبات الإصلاح المنشود منها.
الملك، وفي بادرة للدلالة على جدية مساعيه لإقامة الحكومة البرلمانية، شارك صلاحياته الدستورية في اختيار رئيس الحكومة مع مجلس النواب من خلال مشاورات نيابية يجريها أعضاء المجلس وكتله النيابية لاختيار رئيس الحكومة من بين أسماء محددة يقترحها الديوان الملكي، وهي المشاورات التي انتهت في تجربتها الأولى إلى اختيار عبدالله النسور رئيساً للحكومة، وبناءً على نتائجها كلّفه الملك في 9 مارس/آذار 2013 بتشكيل الحكومة القائمة حتى الآن. هذه الحكومة ترتبط بالمجلس النيابي، الذي أدى دوراً في اختيارها، بعلاقة متوترة بشكل كبير.
لكن طموح الحكومة البرلمانية الذي صاغه الملك ما لبث أن أثيرت المعوقات أمامه قبل إقرار شروطه الموضوعية التي حددها الملك أيضاً، والمتمثّلة بحزمة القوانين الإصلاحية، وهي المعوقات التي حركتها كما هو معلن مشاعر الخوف التي انتابت دوائر الحكم من الآثار السلبية التي يمكن أن تلحق بالمؤسستين العسكرية والأمنية من خلال الزج بهما في خانة التجاذبات السياسية في حال قيام حكومة برلمانية. وللتحايل على ما اعتُبر معضلة، أُجري في العام 2014 تعديل دستوري منح الملك حق التعيين المنفرد لقائد الجيش ومدير الاستخبارات العام من دون تدخّل الحكومة التي كانت هي من يتحمّل ولو شكلاً ترشيح المعينين في تلك المواقع.
تكرر الأمر في التعديلات الدستورية التي أقرت قبل أيام، ومُنح فيها الملك صلاحيات أوسع في التعيين المنفرد، فمُنح إضافة لتعيين قائد الجيش ومدير الاستخبارات، حقاً منفرداً في تعيين ولي عهده ونائبه ومدير قوات الدرك وأعضاء ورؤساء في السلطتين التشريعية والقضائية، ما سحب من الحكومة كل صلاحياتها الدستورية في التعيين. وبرر المدافعون عن التعديلات بضرورتها لتجنيب المؤسسات العسكرية والأمنية التجاذبات السياسية في حال تشكيل الحكومة البرلمانية، إضافة إلى تعزيز استقلالية السلطتين التشريعية والقضائية في مواجهة الحكومة البرلمانية المنتظرة.
لكن الحكومة البرلمانية المُنتظرة والتي استوفت شروط قيامها وفقاً للخطة الملكية، وبعد التعديلات الدستورية، تبدو صعبة التحقيق موضوعياً في ظل قانون انتخابات جديد أجمعت الأحزاب السياسية على أنه صُمم ليحول دون القدرة على وصول أغلبية نيابية مطلوبة لتحقيق الحكومات البرلمانية، حسب الطرح الملكي.
وما يجعل من قيام الحكومة البرلمانية أمراً مستحيلاً وليس صعباً، الدستور الذي ينص في المادة الخامسة والثلاثين منه على أن "الملك يعيّن رئيس مجلس الوزراء ويقيله ويقبل استقالته ويعيّن الوزراء ويقيلهم ويقبل استقالتهم بناء على تنسيب (طلب) رئيس الوزراء".
وبموجب المادة الدستورية التي لم تشملها التعديلات، وحسب استقرار الفقه الدستوري الذي عرّف النصوص الدستورية بالآمرة والتي لا يجوز مخالفتها ولا يحق لمن يُمنح صلاحية بموجبها التنازل عن تلك الصلاحية أو مشاركة أحد في تنفيذها، فإن الحكومة البرلمانية في حال وُجدت النية لقيامها تكون حكومة غير دستورية، ما لم يجرِ تعديل المادة الدستورية لتنصّ صراحة على تكليف الأغلبية النيابية بتشكيل الحكومة، وهو الأمر الذي يُرجِّح أن تبقى حكومة النابلسي تحمل لقب الحكومة البرلمانية الوحيدة في الأردن خلال المدى المنظور.