لا يزال المشهد الليبي يسير على وقع توتر عسكري ومزيد من التعقد على الصعيد السياسي، مقابل تراجع نشاط حراك الحوار السياسي الذي تسيّره الأمم المتحدة في ليبيا، حيث يؤكد مراقبون ليبيون أن الأوضاع الليبية في انتظار وضوح خيارات دولية في ملفات عدة متأزمة متصلة بشكل مباشرة مع الأزمة الليبية.
وعلى الصعيد العسكري، فمقابل تهديد وزير دفاع حكومة الوفاق، صلاح الدين النمروش، أمس السبت، بانسحاب ممثلي حكومة الوفاق في اللجنة العسكرية المشتركة "إذا استمرت خروقات اللواء المتقاعد خليفة حفتر" للاتفاق، وفق قوله في تصريح نشرته الصفحة الرسمية لعملية بركان الغضب التابعة لحكومة الوفاق.
وأكد المتحدث الرسمي باسم غرفة عمليات تحرير سرت – الجفرة التابعة لحكومة الوفاق، الهادي دراه، في بيان وزعه على وسائل الإعلام، استمرار قيادة مليشيات حفتر في تحشيد قواتها في مناطق التماس في سرت والجفرة.
وقال دراه إن فرق الاستطلاع رصد تحرك ست سيارات مسلحة من نوع "تايقر" و17 سيارة مسلحة أخرى مرفقة بسارتين محملتين بالذخيرة من قاعدة الجفرة إلى مناطق في الجنوب الليبي، مشيراً أيضاً إلى أنه تم رصد طائرة شحن روسية حطت في مطار قاعدة القرضابية في سرت.
رغبة في الحرب
وفيما أكد دراه أن تحشيد وتحركات مليشيات حفتر تدل على رغبته "في الحرب"، اعتبر المحلل السياسي الليبي مروان ذويب، أن تصريح دراه يأتي في سياق تصعيد عسكري وتحشيد من الجانبين، مؤكداً أن جانب قوات حكومة الوفاق هو الآخر حشد قواته، إما بهدف التصعيد أو بهدف تعزيز قواته في محاور التماس للاستعداد لصد أي هجوم محتمل من جانب حفتر.
ولا يُعرف على وجه التحديد مواقع تمركز الدعم التركي العسكري لقوات الوفاق، لكن مذكرة قدمتها الرئاسة التركية للبرلمان التركي، أمس، تطلب فيها السماح باستمرار وجود قواتها في ليبيا لمدة 18 شهراً إضافية "كشفت عن وجود فعلي للقوات التركية في ليبيا"، بحسب ذويب.
ويوضح أن "الاتفاق الموقع بين حكومة الوفاق والحكومة التركية لم يكن على صعيد الدعم اللوجستي والتدريب فقط"، مشيراً إلى رصد العديد من التقارير الإعلامية لوجود تركي عسكري في قواعد ليبية تسيطر عليها حكومة الوفاق، ما يعني أن طلب التمديد رسالة غير مباشرة لمخاوف تركية وأيضاً من جانب حكومة الوفاق من انقلاب حفتر ومليشياته على كل مسارات الحوار الهادف إلى إنتاج تسوية سياسية.
ردة فعل
لكن ذويب، في الوقت ذاته، يلفت في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن اتجاه الوضع العسكري للعودة للجمود أو للحراك متوقف على خيارات الدول المتنافسة في حوض المتوسط، وتحديدا من دول أوروبية، من بينها فرنسا من جانب وتركيا من جانب آخر، معتبراً أن التوتر الحاصل في ليبيا جاء كرد فعل على الحراك الفرنسي، أخيراً.
وأطلقت باريس حراكاً دبلوماسياً مع أطراف دولية وإقليمية في حوض المتوسط بشأن ليبيا، آخره ظهور واضح للملف الليبي في زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأسبوع الماضي، لباريس، حيث أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تعزيز العلاقات المصرية الفرنسية بناء على التطورات التي شهدها الملف الليبي، لكنه حذّر من وجود قوة إقليمية تسعى إلى تهديد الحوار السياسي الليبي، في إشارة واضحة إلى تركيا.
في حين أكدت مصادر حكومية ليبية من طرابلس، لـ"العربي الجديد"، إجراء رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج رفقة عدد من مستشاريه، خلال الساعات المقبلة، زيارة لأنقرة، وفي وقت تسعى الرئاسة التركية إلى الحصول على موافقة البرلمان لتمديد مهام قواتها في ليبيا، لم يعلق قادة معسكر شرق ليبيا، بمن فيهم خليفة حفتر، على قرار تركيا تمديد مهام قواتها في ليبيا. ويعتقد ذويب أن الأخير لا يرغب في مواجهة تركيا وحده، خصوصاً بعد أن تلقى تهديداً تركياً مباشراً باستهداف مواقعه، بعد حادثة احتجاز سفينة تركية منتصف الأسبوع الماضي.
ويرجح ذويب بأن خطوة استفزاز تركيا عبر احتجاز السفينة جاءت بقرار فردي من حفتر بمعزل عن حلفائه، موضحاً ان حفتر واقع تحت ضغوط مختلفة من جانب حلفائه أربكت خططه.
شبكة حلفاء حفتر
وبمزيد من التوضيح، يرى ذويب أن شبكة حلفاء حفتر مختلفة المصالح؛ فأبوظبي تدفعه باتجاه شن هجوم مجدداً على مواقع حكومة الوفاق وتعزز من قدراته العسكرية. لكن موسكو لا تزال تحدّ من هذه الرغبة، وهي الأكثر ثقلاً عسكرياً إلى جانب حفتر. بينما لا ترمي القاهرة وباريس إلى أكثر من استخدام حفتر ورقة للضغط على تركيا لتحجيم سياساتها في ملفات أخرى، وتحديداً ما يتعلق بمواقع الطاقة في البحر المتوسط.
ووفق ذويب، فإن حلفاء حفتر لن يعتمدوا عليه بعد خسارته العسكرية الساحقة السابقة، وعودته للساحة مجرد ورقة للضغط، فلا تزال الرؤية في معسكر شرق ليبيا ضبابية بشأن من يمثله في المشهد المقبل، ويقلل من شأن استمرار وجود عقيلة صالح في المشهد، معتقداً أن احتفاظ القاهرة به مؤقت، بسبب بروز شخصيات أخرى ذات ثقل قبلي تنافسه وتوالي حكومة الوفاق، من بينها المستشار عبد الجواد العبيدي، المنحدر من قبيلة صالح ويحظى بشعبية واسعة في شرق البلاد.
ونقلت وسائل إعلام مقربة من مجلس نواب طبرق، ليل السبت، بياناً قالت إنه لـ"القبائل والمكونات الاجتماعية والسياسية والمدنية في إقليم برقة"، أعلنت فيه عن دعمها "التام لمبادرة السلام" التي أطلقها رئيس مجلس نواب طبرق، عقيلة صالح، "والتي أسست على مبدأ الأقاليم التاريخية الثلاثة؛ برقة- طرابلس- فزان".
وعلل البيان، هذا الدعم بأنه يأتي "تفادياً لمزيد من الانقسام، وسعياً إلى توحيد الجهود الرامية إلى إعادة الوئام والسلام، وحرصاً على استمرار العملية السياسية ومسارات الحوار التي ترعاها بعثة الأمم المتحدة".
وأكد البيان أن الموقّعين سيرفضون "أي مخرجات تمس صلب المبادرة أو تصادر حق الإقليم في اختيار ممثليه، من خلال استخدام آليات تصويت في ملتقى الحوار السياسي لإقصاء شخصيات بعينها". كما أكد البيان أن "المقر الدستوري لانعقاد مجلس النواب هو مدينة بنغازي أو مقره المؤقت في مدينة طبرق".
تشويش على النجاح
وجاء البيان متزامناً مع دعوة أعلن عنها مجلس نواب طبرق، ليل السبت، للنواب لعقد جلسة رسمية، غدا الاثنين، في بنغازي، في مسعى جديد للتشويش على نجاح أكثر من 120 نائباً في عقد جلساته بمدينة غدامس.
وتستبق الجلسة المقررة في بنغازي جلسة قرر النواب عقدها في غدامس، الأسبوع المقبل، لانتخاب رئاسة جديدة للمجلس، بحسب بيان للنواب الأربعاء الماضي.
وفي سياق الصعيد السياسي، توقفت البعثة الأممية في ليبيا عند حد إعلانها عن عزمها التواصل بشكل مباشر مع أعضاء لم يشاركوا في جلسات التصويت على اختيار إحدى آليات اختيار شاغلي السلطة الجديدة لـ"إتاحة فرص متساوية لكافة أعضاء الملتقى"، في الوقت ذاته الذي أعلنت فيه عن رغبتها في تنظيم لقاء جديد للمسار الاقتصادي، غداً الاثنين، في جنيف، بين رؤساء المؤسسات الليبية الاقتصادية، بمشاركة مصر والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، بهدف "التوصل إلى اتفاق بشأن إصلاحات بالغة الأهمية في السياسة الاقتصادية العامة"، مؤكدة أن الاجتماع المرتقب سيشكل "فرصة لإحراز تقدم نحو الاتفاق على مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى تجنب المزيد من التدهور الاقتصادي".
وعلى الرغم من عبارات التفاؤل التي احتواها الإعلان عن الاجتماع الاقتصادي "الدافعة لمزيد من الأمل"، بحسب الأكاديمي الليبي ياسين العريبي، إلا أنه يرى أن شكل الصراع الليبي وعمق تعقده أثر على جهود البعثة الأممية التي تحاول جاهدة محاولة لملمة الأوراق المبعثرة أمامها، فـ"المسار العسكري بات مهدداً بتصريحات وزير دفاع حكومة الوفاق، والمسار السياسي لم يتوصل قادته 75 في ملتقى الحوار السياسي إلى توافق حول آليات اختيار شاغلي السلطة التنفيذية الجديدة"، وهذه التشابكات التي انتهت بدعوة البعثة إلى إحياء مفاوضات المسار الاقتصادي جاءت متزامنة مع تحذير تقرير مجموعة الأزمات الدولية من انهيار اتفاق النفط الموقع بين حفتر ونائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أحمد معيتيق.
وأشار تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، نشره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أمس السبت، إلى أن الوضع في ليبيا لا يزال "هشاً"، على خلفية إمكانية انهيار اتفاق النفط الموقع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الذي مكن من استئناف إنتاج النفط وخفض من مستوى التوتر في البلاد، على حد وصفه.
وحذر التقرير من إمكانية انهيار اتفاق النفط وارتفاع مستوى التوتر، ما قد يقود إلى تجدد الصدامات المسلحة، في وقت أوشك هذا العام على الانتهاء من دون إحراز تقدم كبير في المفاوضات السياسية والاقتصادية، مؤكداً أن المحادثات التي توسطت فيها الأمم المتحدة لتعيين حكومة وحدة وطنية تعثرت.
وحذرت مجموعة الأزمات من "مفسدين" داخل أعمال ملتقى الحوار السياسي الليبي، الذين قالت إنهم "حريصون على تخريب تعيين هيئة تنفيذية جديدة لأسباب مختلفة"، موضحة أن البعض يريد بقاء السراج في مكانه، لأنهم يستفيدون من الوضع الراهن، والبعض يرى أن تعيين حكومة مؤقتة جديدة سيؤخر، ربما إلى أجل غير مسمى، الانتخابات المقرر إجراؤها في نهاية عام 2021".
كواليس الحوار السياسي
وفي جديد كواليس ملتقى الحوار السياسي، كشفت مصادر ليبية مقربة من أعضاء الملتقى أن المباحثات تعرقلت مجدداً عند التوافق على آليتين من أصل عشر آليات اقترحتها البعثة الأممية.
وأوضحت المصادر التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، أن انقسام أعضاء الملتقى بالتساوي حيال الآليتين جعل من إمكانية الحصول على نسبة 75% من مجمل الأعضاء لصالح أي من الآليتين مستحيلاً، مع جعل البعثة تخفض نسبة التصويت إلى 50%+1 لتمرير أحد المقترحين، وهو ما حدا بالأعضاء إلى طلب إعادة التصويت مجدداً على المقترحات العشر بذات النسبة الجديدة. ويعتقد العريبي في حديثه لـ"العربي الجديد" أن الخلافات في الكواليس الليبية في مختلف أماكنها، سواء في مجلس النواب أو في طرابلس وشرق ليبيا، مرتبطة ببعضها البعض ولا يمكن فصلها.
ولن يؤدي لقاء المسار الاقتصادي، المزمع أن تستضيفه جنيف، غداً الإثنين، إلى أي نتائج ملموسة قد تساعد البعثة في ترتيب أوراقها والإمساك بزمام قيادة المباحثات الليبية الهادف للتوصل إلى حل توافقي، بحسب العريبي، موضحاً "ستعلن البعثة عن نتائجه، لكنها نتائج تصب في صالح الأطراف التي استضافتها للمشاركة في اللقاء دونما أن توضح أسباب إضافتها ولماذا استبعدت أطراف دولية وإقليمية أخرى"، متسائلاً "على أي أساس دعت البعثة القاهرة وعواصم أوروبية وواشنطن للمشاركة في اللقاء الاقتصادي صحبة قادة مؤسسات ليبية؟". وأعرب عن اعتقاده بأن المسار الاقتصادي هو الآخر أصبح منحازاً لسياسات ومصالح أطراف في الأزمة الليبية ضد أطراف أخرى، بل وعلى علاقة بالصراع القائم في شرق المتوسط.
ويخلص العريبي إلى أن الصراعات الليبية لا تزال رهينة لحلفاء أطراف الصراع الاقليمي والدولي، وحلها أيضاً رهين لخيارات دولية.