كييف: من مهد العالم الروسي إلى مواجهة موسكو

كييف: من مهد العالم الروسي إلى مواجهة موسكو

28 فبراير 2022
ساحة الاستقلال في كييف قبل بدء الغزو (Getty)
+ الخط -

بعد أربعة أيام على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، لا تزال القوات الروسية عاجزة عن اقتحام النواة الأساسية للعاصمة الأوكرانية كييف، على الرغم من المعارك الدائرة في مقاطعتها، ومحاصرتها من الشرق والشمال وبعض الأجزاء الجنوبية والغربية.

ويُشكّل صمود ثالث أكبر مدينة في الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991)، بعد موسكو وسان بطرسبرغ الروسيتين، عقبة أمام أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سعى منذ اليوم الأول للغزو في 24 فبراير/شباط الحالي، إلى دخول كييف وإطاحة الحكم بقيادة الرئيس فولوديمير زيلينسكي وتنصيب حكومة موالية له، عبر انقلاب عسكري، وهو ما أفصح عنه في حديثٍ له، يوم الجمعة الماضي، نقله التلفزيون الروسي بقوله للجيش الأوكراني: "تولوا السلطة. يبدو لي أن من الأسهل التفاوض بيني وبينكم".

ومع أن الروس أعلنوا مساء أول من أمس السبت، بدءهم "هجوماً شاملاً من كل الجهات"، إلا أنهم فشلوا بعد 24 ساعة على الأقلّ من تحقيق مكاسب ميدانية فعلية.

دور زيلينسكي في صمود كييف

وتحولت كييف إلى رمز لصمود المدافعين عن أوكرانيا، خصوصاً بعد تمسك زيلينسكي بالبقاء فيها ورفضه عروضاً بمغادرتها، عاملاً على تسويق مفهوم الصمود بفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والخطابات التحفيزية.

ولا تكمن أهمية كييف في سياق القتال الحالي، بقدر ما أنها تختزن تاريخاً ثقافياً وديمغرافياً كبيراً. ويتفق معظم المؤرخين بأن البشر، كتجمّعات سكنية لا كفرادى، سكنوا العاصمة الأوكرانية منذ نحو 1500 عام، وأن المدينة شهدت استيطان الخزر، وهم من الشعوب التركية القديمة، والتي يرى البعض بأنها "أسلاف القوقازيين" الحاليين.

وفي منتصف القرن التاسع، احتل الفايكينغ، وهم من الشعوب الاسكندنافية المدينة التي تحولت إلى مستعمرة للشعوب السلافية الشرقية، وإلى محطة تجارية أساسية بين اسكندنافيا (السويد، النرويج، فنلندا، الدنمارك) وإسطنبول التركية (القسطنطينية سابقاً).

وعمد الفايكينغ إلى توسيع المدينة، مُطلقين عليها اسم "كييفان روس"، التي تُعتبر لدى أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا الحالية، بمثابة "مهد الشعوب الروسية"، ولها قيمة كبيرة في الثقافة الروسية تاريخياً. وبعد انتهاء عصر الفايكينغ، سقطت المدينة أمام غزوات المغول في عام 1240، وتمّ تدميرها بالكامل.


تحولت كييف إلى رمز لصمود المدافعين عن أوكرانيا، خصوصاً بعد تمسك زيلينسكي بالبقاء فيها

ولاحقاً، بعد تراجع المغول، تراوحت السيطرة على كييف بين الشعوب البولندية والشعوب الليتوانية، قبل سيطرة روسيا عليها. وفي القرن 19 تحولت المدينة، مثل مدينة سومي في شرقها، إلى مقر للصناعات الروسية.

وفي عام 1918، بعد الثورة البلشفية في روسيا، أعلنت أوكرانيا استقلالها، لكن في عام 1921، باتت جزءاً من دولة الاتحاد السوفييتي. وبين عامي 1932 و1933، تعرّضت المدينة، كغيرها من المناطق الأوكرانية لمجاعة كبرى، بسبب سياسة المزارع الجماعية، التي اعتمدتها الحكومة المركزية في موسكو، لتغيير الزراعة التقليدية في الاتحاد السوفييتي وتقليل القوة الاقتصادية للفلاحين، الذين أُجبروا على التخلي عن مزارعهم الفردية والانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة. وهو قرار أودى بحياة نحو 3.5 ملايين أوكراني.

وفي الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) دمّرت ألمانيا النازية كييف، في طريقها إلى ستالينغراد (فولغوغراد حالياً)، واحتلتها بين 19 سبتمبر/أيلول 1941 و6 نوفمبر/تشرين الثاني 1943.

ففي معركة الاحتلال النازي سقط المدافعون السوفييت عن المدينة بعد شهر من الصمود، وفي معركة التحرير نجح السوفييت في إخراج الألمان خلال شهر ونيّف.

وكلّفت المعركتان نحو 100 ألف قتيل سوفييتي وألماني. كما قتل الألمان خلال احتلالهم أكثر من 150 ألف شخص بعمليات إبادة جماعية.

نمو ما بعد العصر السوفييتي

بعد الحرب، نمت كييف سريعاً، بفعل مميزاتها الجغرافية والديمغرافية، وكانت من أهم مراكز الثقل السوفييتي، حتى أن موقع مفاعل تشرنوبيل النووي، لا بعد عنها أكثر من 95 كيلومتراً، غير أنها لم تتأثر بإشعاعاته حين انفجر في 26 إبريل/نيسان 1986، بسبب الرياح الجنوبية، التي دفعته إلى بيلاروسيا وروسيا ودول اسكندنافية.

ومع إدراك السوفييت لأهمية المدينة، فإنهم دفعوها لتصدّر قائمة أهم مدنهم في أوروبا الشرقية، لذلك حين انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، تأثرت كييف بصورة أقلّ من غيرها من المدن السوفييتية والأوروبية الشرقية التي كانت خاضعة لحكم موسكو.

وباتت المدينة ملاذاً للأوكرانيين من مختلف أنحاء البلاد، وانتقلت سريعاً إلى اقتصاد السوق والانخراط في قطاعات صناعية جديدة، مثل الخدمات وقطاع المال، الذي سمح في ارتفاع نسب الاستثمار ونموّ الرواتب. وعوّضت المدينة بهذا التحوّل الصدمة السلبية التي تعرّضت لها بعد تأثر قطاعاتها العلمية والتقنية بفعل التفكك السوفييتي.


تُعدّ كييف "مهد الشعوب الروسية" في التاريخ

في الأعوام التالية لاستقلال أوكرانيا في عام 1991، تبدلت صورة المدينة من النسق السوفييتي إلى النسق الليبرالي، خصوصاً أن تدفق المهاجرين من أصول أوكرانية إليها، فضلاً عن جذبها مهاجرين من دول في أوروبا الشرقية، حوّلها إلى مدينة متحركة سياسياً وغير جامدة.

بالتالي، احتضنت المدينة في ساحاتها الرئيسية، خصوصاً ميدان الاستقلال في وسطها، أنصار الثورة البرتقالية، الذين دعوا للاستقلال الكامل عن روسيا، وذلك في عامي 2004 ـ 2005.

وانتهت الثورة بسيطرة روسيا، مع انتخاب رئيس حزب "الأقاليم" الموالي لموسكو، فيكتور يانوكوفيتش رئيساً في عام 2010. لكن في شتاء 2013 ـ 2014، عادت الاحتجاجات إلى ساحات كييف، وتطورت إلى حدّ هروب يانوكوفيتش إلى موسكو، وسيطرة أنصار الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على القرار السياسي للبلاد.

لكن التدخل الروسي، عبر ضمّ شبه جزيرة القرم في ربيع 2014، ثم اندلاع الحرب بين انفصاليي الشرق في لوغانسك ودونيتسك وبين الحكومة الشرعية، حوّل كييف إلى موقع متقدم في مواجهة موسكو، إلى درجة أنها شهدت انفصالاً تاريخياً للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في عام 2018.

وبعد 24 فبراير الحالي، باتت العاصمة الأوكرانية رمزاً للمقاومة ضد القوات الروسية، في ظلّ المعارك الدائرة حولها، لأن سقوط المدينة التي يقطنها نحو 3 ملايين شخص أو صمودها سيُغيّر من طبيعة الحرب الجارية.

(العربي الجديد)

المساهمون