كارثة انهيار سدّي درنة: عقود من الإهمال وتجاهل التحذيرات

كارثة انهيار سدّي درنة: عقود من الإهمال وتجاهل التحذيرات

16 سبتمبر 2023
8% من سكان مدينة درنة قُتلوا أو فُقدوا في الفيضانات (أسوشييتد برس)
+ الخط -

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، اليوم السبت، تقريراً تحدثت فيه عن أن الكارثة التي حلّت بمدينة درنة الليبية، بعد العاصفة القوية التي اجتاحت البلاد وأدّت إلى انهيار سدّين في المنطقة، كانت متوقعة نتيجة عقود من الإهمال وتجاهل التحذيرات.

وأشارت الصحيفة إلى أن الأمطار الغزيرة ضربت المنطقة على مدى سنوات، وجرفت التربة التي كانت تساعد في امتصاص المياه أثناء جريانها من التلال الجافة فوق المدينة، كما أن التغير المناخي لعب دوره أيضاً، لكن ذلك ترافق مع عقود من الإهمال من قبل المسؤولين الذين كانوا يعلمون أن السدود بحاجة إلى إصلاحات.

الصورة
مدينة درنة الليبية في 13 سبتمبر كما تظهرها لقطات الأقمار الصناعية-ميكسار
مدينة درنة الليبية في 13 سبتمبر كما تظهرها لقطات الأقمار الصناعية (ميكسار)

ولفتت إلى دراسة كان نشرها المهندس والأكاديمي الليبي عبد الونيس عاشور في عام 2022 أكد فيها أن سكان درنة معرضون بشدة لمخاطر الفيضانات، محذراً من أن العواصف التي ضربت المنطقة في العقود الأخيرة، مستشهداً بفيضانات مدمّرة عام 1959، يمكن أن تؤدي إلى انهيار السدود وإغراق درنة، وواصفاً الوضع بأنه "خطير".

وفي هذا السياق، يؤكد عاشور الذي خسر أفراداً من عائلته الكبيرة في كارثة درنة، في مقابلة مع الصحيفة عبر الهاتف، أن الحكومة تجاهلت سنوات من التحذيرات، بما فيها الدراسة التي نشرها، قائلاً: "نعيش في حالة صدمة. لا يمكننا استيعاب ما يحدث لنا"، مشيراً إلى أن السلطات لم تهتم للموضوع، وقامت بدلاً من ذلك بصرف الأموال، وممارسة الفساد، وخوض مشاحنات سياسية.

ويلفت إلى أن السدود بُنيت على أيدي مهندسين قلّلوا من تقدير كمية الأمطار المتوقعة في المنطقة. وما زاد الطين بلّة، هو أن الأرض خضعت لعملية تصحر، ما قلّل من قدرتها على امتصاص الجريان السطحي. علاوة على ذلك، يقول المسؤولون المحليون إن السدود بالكاد تمت صيانتها منذ بنائها في أواخر السبعينيات.

ويؤكد أحد كبار خبراء السدود في الولايات المتحدة، المدير المتقاعد في شركة الهندسة "ويس، جاني، الستنر"، مايكل دبليو ويست، إن استنتاجات عاشور تبدو قوية، لافتاً إلى أن نقطته الرئيسية كانت أن التصميم الهيدرولوجي لتلك السدود لم يكن كافياً، وأنها لن تتمكن من تحمّل العواصف القوية.

الصورة
صورة من الاقمار الصناعية لمدينة درنة قبل الفيضانات-ميكسار
صورة من الاقمار الصناعية لمدينة درنة في يوليو/ تموز (ميكسار)

سنوات من الإهمال

وفق خبراء تحدثوا إلى الصحيفة، تمّ بناء السدّين الشاهقين فوق المدينة بمساعدة مهندسين من يوغوسلافيا السابقة. ويبلغ ارتفاع الحوض الأكبر، المعروف باسم "أبو منصور"، 74 متراً، ويمكنه استيعاب ما يصل إلى 22.5 مليون متر مكعب من المياه. أما السدّ الأصغر، وهو "سدّ البلاد"، أو سدّ درنة، فقد تم بناؤه على مشارف المدينة.

خلال حكم العقيد معمر القذافي، صمد السدّان رغم الفيضانات. وفي عام 1986، ضربت عاصفة كبيرة المنطقة، ما أدّى إلى تضرّرهما وجرف التربة. ويقول عاشور هنا إن هياكل السدّين تضرّرت، لكنهما صمدا مرة جديدة.

وعلى الرغم من الضغوط، كانت الإصلاحات ضئيلة. ويقول النائب العام صادق السور إن الحكومة الليبية كلّفت عام 1998 بإجراء دراسة كشفت عن تشققات في السدّين، لافتاً إلى أنه بعد ما يقرب من 10 سنوات، تمّ التعاقد أخيراً مع شركة تركية لإصلاحهما، لكن الحكومة تباطأت في الدفع، ولم يبدأ المشروع إلا في عام 2010، وفق ما أكده للصحافيين أمس الجمعة.

وبعد أربعة أشهر فقط، في عام 2011، خرج الليبيون إلى الشارع ضد قبضة القذافي التي استمرت 42 عاماً على السلطة، ليتوقف العمل في السدّين خلال الاضطرابات، وفق النائب العام.

ومع تنحية القذافي واستمرار الاضطرابات في البلاد وتقاسم السلطة، استمّر إهمال السدّين. ووفق تقرير صدر عام 2021 عن مدققي حسابات الدولة الليبيين في غربي البلاد، لم يتم استخدام أكثر من 2.3 مليون دولار مخصصة لصيانة السدّين على الإطلاق، واصفين الأمر بأنه إهمال حكومي.

ويقول الرئيس السابق للجمعية الأميركية للمهندسين المدنيين ويليام ماركوسون الثالث إن هذه السدود، التي بُنيت من الطين والصخور، كانت شائعة في كل أنحاء العالم، مضيفاً: "لا يوجد شيء خاطئ في هذا النهج، إذا تم القيام به بشكل صحيح"، لكنه أوضح أن السدود يجب أن تكون مصمّمة لتحمّل أقصى قدر محتمل من العواصف المطرية، وأن يتم بناؤها تحت فحص دقيق، لضمان عدم حصول أي تقصير.

كارثة كان يمكن تفاديها

وعشية الكارثة، وعلى الرغم من ارتفاع منسوب المياه في السدّين، أصرّ بعض المسؤولين على التأكيد أنهما في حالة جيدة، وأنه لا داعي للقلق من انهيارهما، متحدثين عن أن العاصفة أثرت على قدرتهم على التواصل مع المكلفين بمراقبة أحد السدود.

وقبل فجر الاثنين، كان منسوب المياه قد غمر السدّين، "أبو منصور" أولاً، ثمّ السدّ الأصغر، والذي اختفى في غضون لحظات، وفق تأكيد عاشور.

وعلى الرغم من أن عاشور يقرّ بأن الفيضان نجم عن عاصفة هائلة نادراً ما تشهدها البلاد، فإنه يعرب عن اعتقاده بأنه كان بإمكان السلطات أن تقوم بالمزيد لتقليل المخاطر.

ويختم حديثه بالقول: "صراع سياسي، حكومتان، كل الحروب التي شهدناها منذ عام 2011، الإرهاب، كل المشاكل التي واجهناها، كل هذا اجتمع ليؤدي إلى هذه الكارثة".

يذكر أن ثمانية في المائة من سكان مدينة درنة الليبية قُتلوا أو فُقدوا في الفيضانات التي سبّبتها العاصفة دانيال، في حين أنّ ربع أحيائها مُسح من الخريطة، وذلك في معدّل غير مسبوق، لا مغاربياً ولا عربياً، ولا حتى عالمياً في القرن الواحد والعشرين.

والعاصفة دانيال التي ضربت شرقيّ ليبيا في العاشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، سبّبت مقتل الآلاف، علماً أنّ الأرقام تختلف باختلاف الجهات التي تصدرها، وسط تقديرات ببلوغ عدد الضحايا من القتلى 20 ألفاً. كذلك، فُقد نحو 10 آلاف آخرين في مدينة يُقدَّر عدد سكانها بنحو 200 ألف نسمة، أمّا عدد الذين هُجّروا منها فقدّرته المنظمة الدولية للهجرة بنحو 30 ألفاً.