فلسطين والنظام الرسمي العربي

فلسطين والنظام الرسمي العربي

25 يونيو 2023
اجتماع سفراء جامعة الدول العربية الطارئ في القاهرة في إبريل 2023(فرانس برس)
+ الخط -

يحيلنا عنوان المقال فورًا إلى الطبيعة التي حكمت العلاقة بين الأنظمة العربية والقضية الفلسطينية على مدى عقود، والتي تدرجت نزولاً من التبني الكامل لها إلى توظيفها سياسياً، ثم إلى التخفف منها وصولاً إلى محاولات عدد متزايد من الأنظمة الانعتاق التام منها. أي أن القضية الفلسطينية التي ارتبط تأسيس النظام الرسمي العربي بها، ومثلت قضيته المركزية لم تكن يوماً قضية أنظمة، أو قوى سياسية تتحكم بهذه الأنظمة، إلا بالقدر الذي يخدم هذه الأنظمة وقواها المسيطرة.

فهم طبيعة هذه العلاقة؛ يمكن أن يفسر الكثير من الأحداث والصراعات والسياسات التي تشاركت بها غالبية الأنظمة العربية، منذ ستينيات القرن الماضي حيال القضية الفلسطينية، والفصائل الفلسطينية، واللاجئين الفلسطينيين، خصوصاً في ما كان يسمى بلدان الطوق.

تحضرنا هنا المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في الأردن، غداة معركة الكرامة سنة 1968، وهزيمة يونيو/حزيران 1967، التي تركت في وجدان الشعوب العربية قاطبة ندوباً عميقة فوق تلك التي تركتها نكبة 1948، فعمقتها وزادت شعور المذلة والهوان الجمعي لدى هذه الشعوب، هذه الهزيمة التي مرت ذكراها السنوية قبل أيام، نلاحظ الغياب التام عن تذكرها لدى العموم، ومرد ذلك في تصور الكاتب إلى كمّ الهزائم المتوالية، التي حاقت بهذه الشعوب خلال العشرية الثانية من هذا القرن، ليس على يد الاحتلال الصهيوني، بل على أيدي أنظمة الحكم المتسلطة على رقابها. هذا لا يعني أن تلك الهزائم التي طفت على سطح الأحداث مؤخرا ساهمت في إزالة الشعور بالمهانة أمام الاحتلال الصهيوني وجرائمه المتواصلة، بالعكس فقد ساهمت بوعي الرابط الفعلي بين وجود هذا الاحتلال وبين استمرار وتجذر هذه الأنظمة. وما عملية المجند المصري الشهيد محمد صلاح أخيراً إلا تعبير عن هذا الإحساس العفوي لدى مجمل الشعوب العربية.

 

اليوم؛ تعيش الأنظمة العربية أجواء النصر على شعوبها، في اليمن وسورية والعراق وليبيا وتونس ومصر والسودان والمغرب

تدرج النظام الرسمي العربي في علاقة الأنظمة الحاكمة في دوله بالقضية الفلسطينية على النحو التالي:
التبني الكامل، التخفف من القضية، الاستغلال السياسي لها، التحرر التام منها


ترافق تأسيس جامعة الدول العربية (1945) مع تصاعد التوتر في فلسطين، ومع تقدم واسع للمشروع الاستيطاني الصهيوني فيها، برعاية وحماية تامة من الاحتلال البريطاني، بعد ثورة 1936 الفلسطينية الكبرى. كما جاء على وقع تصاعد النقمة الشعبية في الأوساط العربية، واستنفار الشباب العربي لمواجهة المشروع الصهيوني. ما دفع المشاركين في مشاورات تأسيس هذا النظام إلى تضمين مشاوراتهم بندا خاصا بالقضية الفلسطينية، وإصدار ملحق بميثاق الجامعة مخصص للقضية الفلسطينية.


مرد هذا التبني للقضية الفلسطينية من قبل النظام الرسمي العربي في طور تشكله يعود إلى عاملين أساسيين:
الأول الاهتمام الشعبي العربي بالقضية الفلسطينية، واعتبارها قضية حياة أو موت بالنسبة للعرب، وتصاعد الحالة الشعبية العربية في مختلف الأقطار لمقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين، كمشروع اقتلاعي لا يستهدف فلسطين وحدها، ولا الشعب الفلسطيني دونا عن سائر العرب، من هنا كان احتشاد المتطوعين العرب للانخراط في المواجهة العسكرية في فلسطين، فور إعلان بن غوريون إقامة "دولة إسرائيل" على الأرض الفلسطينية (14 مايو/أيار 1948).

أما العامل الثاني فيرتبط بحداثة استقلال الدول العربية، وحداثة أنظمتها، وفي مواجهة قضايا الأمة المصيرية، والخشية من انقلاب الجيش والشارع عليها، إن أظهرت تخاذلا في التصدي لهذه القضية، وهذا ما حدث بالفعل بعيد النكبة في أكثر من قطر عربي.

 

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

لقد تجلى تبني النظام الرسمي العربي المبكر للقضية الفلسطينية في:
1-    تبني وإصدار ملحق لميثاق جامعة الدول العربية خاص بفلسطين، يؤكد التزام هذه المنظمة العربية الوليدة بالعمل على تمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقه في تقرير مصيره ونيل استقلاله، أسوة بباقي الشعوب العربية الواقعة تحت نير الاستعمار.
2-    تخصيص أول قمة عربية لبحث القضية الفلسطينية حصراً، وتطوراتها تحت راية الجامعة الوليدة، في مصر (قمة أنشاص عام 1946).
3-    رفض قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة لليهود وثانية للعرب (1947)، من باب الرفض المبدئي لقيام دولة يهودية على أي جزء من التراب العربي الفلسطيني.
4-    المبادرة إلى الدخول في حرب غير متكافئة مع العصابات الصهيونية، لإجهاض مشروع إقامة دولة إسرائيل فور إعلان بن غوريون، وبما تيسر من جيوش وتسلح ومتطوعين عرب.
5-    إصرار كافة الدول العربية على استمرار حالة الحرب مع "إسرائيل"، وإصدار مجلس جامعة الدول العربية قراراً يحظر فيه على جميع الدول الأعضاء الاتصال أو التفاوض أو إقامة أي نوع من العلاقة المنفردة مع "إسرائيل" (1950)، بل وتمكنت جامعة الدول العربية من وضع نظام محكم لمقاطعة "إسرائيل" اقتصادياً وتجارياً.
6-    تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (1964)، وجيش التحرير الفلسطيني كوحدات عسكرية فلسطينية ملحقة بجيوش دول المواجهة.
استمرت هذه الحال مدة عقدين من الزمن، شهدا ترسيخ أنظمة الحكم في البلدان العربية، بعد انقلابات عسكرية عدة فيها، وخروج الاستعمار الأجنبي من معظمها، كما شهدت صعود المد الناصري في مصر، وفي عدد من البلدان العربية، بعد تأميم قناة السويس وحرب العدوان الثلاثي (1956)، وقيام الجمهورية العربية المتحدة؛ مصر وسورية (1958-1961)، وكذلك بعد صعود الأحزاب اليسارية والقومية، كحركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي وصل إلى السلطة في كل من سورية والعراق. لتأتي هزيمة يونيو/حزيران 1967 وتضع حداً لهذه المرحلة.

 

من هنا كان احتشاد المتطوعين العرب للانخراط في المواجهة العسكرية في فلسطين، فور إعلان بن غوريون إقامة "دولة إسرائيل"

التخفف من القضية الفلسطينية

بدأ مع استعادة الفلسطينيين لمنظمة التحرير الفلسطينية من أيدي مجلس جامعة الدول العربية، ومن ثم الاعتراف بحصرية تمثيلها للشعب الفلسطيني، وبالتالي إلقاء كامل مسؤولية القضية على عاتقها.
عملياً مثّل هذا الأمر انتصاراً للفصائل الفلسطينية وللفلسطينيين عموماً، باعتباره وضع قضيتهم بين أيديهم، بعد الخيبات التي تلقوها، نتيجة هزائم الجيوش العربية المتكررة أمام العدو الصهيوني، وبعد محاولات الاستتباع، التي باشرتها بعض الأنظمة للفصائل الفلسطينية وتسخيرها لمصالحها.


ولكن بالمقابل تنصلت الأنظمة العربية شيئاً فشيئاً من عبء القضية، لتنتقل من "صراع عربي صهيوني" إلى نزاع حدودي، حول أراضٍ احتُلت عام 1967، كما جاء في القرار الأممي 242، الأمر الذي يظهر بوضوح أكبر بعد حرب أكتوبر 1973، على جبهتي سورية ومصر، مصر التي ذهبت أبعد من ذلك في عملية التفاوض والتسوية، وصولا إلى اتفاق كامب ديفيد (1978)، الذي سحبت دولة الاحتلال جيوشها من سيناء بموجبه، وطبعت مصر بتسوية منفردة علاقاتها مع الكيان، خارقة بذلك كل القرارات ذات الصلة، التي تبنتها الجامعة العربية سابقاً بخصوص القضية الفلسطينية.


رداً على ذلك قررت جامعة الدول العربية إقصاء مصر، وتعليق عضويتها في الجامعة. في الواقع لم يكن خلاف أنظمة الدول العربية مع نظام أنور السادات يتعلق برؤيته لحل الصراع العربي الإسرائيلي، فجميع الأنظمة لا تعترض على قراري الأمم المتحدة 242 و338، اللذين يقران بحق إسرائيل في الوجود، ضمن حدود 1948، وقد لبّت هذه الأنظمة الدعوة للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام، الذي استند إلى هذين القرارين. لذلك؛ وعلى الرغم من تمسك النظام المصري باتفاقية كامب ديفيد، أنهت الأنظمة العربية جميعها مقاطعة مصر، وعادت القاهرة من جديد، لتكون مقراً لجامعة الدول العربية.

 

الاستغلال السياسي للقضية الفلسطينية:

لم يخل خطاب أو فكرة أو شعار أو بيان أو مناسبة أو يوم من أيام القضية الفلسطينية المريرة والمديدة من محاولة استغلالها سياسيا، من قبل الأنظمة والقوى العربية، الممسكة بالحكم في البلدان العربية عامة. وقد تبدى هذا الاستغلال منذ تأسيس النظام الرسمي العربي، وجامعة الدول العربية، بتبنٍّ غير ذي جدوى لهذه القضية، والتلويح بها، خشية انقلاب الشعوب على أنظمتها، وإذا كان تبني النظام الرسمي للقضية الفلسطينية قد خدم تشكله وتبلوره لعقدين من الزمن، فإن التدرج في التخفف والتخلي؛ بعد أن شعرت الأنظمة بمقدرتها على الصمود في وجه شعوبها، كان من جملة أسباب تحلل هذا النظام وتفسخه.

 

تجلى الاستغلال السياسي للقضية الفلسطينية إما بالمزايدة بين القوى المسيطرة، أو بابتزاز بعضها، أو باستخدامها بطاقة حمراء في وجه المعارضين (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!). وقد تمادت بعض الأنظمة في استثمار الفصائل الفلسطينية؛ التي اعتمدت في نشوئها وتمويلها وتسلحها على تلك الأنظمة، إذ استخدمتها كأداة لقمع اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم، والمعارضين المحليين في تلك الدول. وقد برز ذلك بروزاً قميئاً أثناء الثورة السورية. وما زالت القضية الفلسطينية موضوع استثمار وابتزاز وأداة تخوين بيد حزب الله والنظام السوري، ومن ورائهما نظام ولاية الفقيه في طهران.

 

التحرر التام من تبعات القضية:

بعد أن سلّم النظام الرسمي العربي مسؤولية القضية الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد أن أخذ يتخفف منها، ولا يستخدمها إلا لخدمة تأبيد سيطرته عنوة، وبعد أن حوصرت المنظمات الفلسطينية، وأطبق عليها في الأردن ثم في لبنان، وبعد أن ارتكبت المجازر في المخيمات الفلسطينية، على أيدي قوات النظام السوري والمليشيات التابعة له، ومليشيات القوات اللبنانية، وجيش الاحتلال الصهيوني، وبعد أن دُفعت قيادة ومقاتلو المنظمات الفلسطينية إلى النزوح من لبنان إلى السودان ومنها إلى تونس، وبعد عمليات الاغتيال التي طاولت خيرة قادتها، لم يبق أمام قيادة منظمة التحرير، التي رأت جميع أنظمة الحكم العربية تلبي استدعاء الولايات المتحدة إلى مؤتمر مدريد، لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، كان من الطبيعي أن تطلق قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بيان إعلان قيام الدولة، على أي بقعة تستطيع تحريرها من أرض فلسطين، وهذا ما أوصل إلى اتفاقية أوسلو، الفخ الكبير الذي وقع فيه ياسر عرفات.


اليوم؛ تعيش الأنظمة العربية أجواء النصر على شعوبها، في اليمن وسورية والعراق وليبيا وتونس ومصر والسودان والمغرب، ويستعيد نظام بشار الأسد موقعه في النظام الرسمي العربي، بعد سنوات من المجازر والتدمير والتهجير، طاول مدناً وبلدات وأحياء، وبعد كل الجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبها بحق السوريين والفلسطينيين، وبحق عاصمة الشتات الفلسطيني؛ مخيم اليرموك، مستعيناً بمليشيات وقوات خارجية، إذ أصبح الطلاق مع مقررات جامعة الدول العربية الأولى؛ المتصلة بالقضية الفلسطينية، لزوم ما لا يلزم، وبات التطبيع مع الكيان الغاصب مسألة وقت، افتتحه عدد من الأنظمة، ويسير على هديه باقي النظام الرسمي العربي.


هكذا تحولت القضية الفلسطينية من شأن عربي جامع إلى شأن فلسطيني، وأخشى ما نخشاه، إن بقيت الأنظمة العربية على وتيرتها المتسارعة، أن تصبح القضية الفلسطينية؛ بالنسبة للنظام الرسمي العربي، "شأناً إسرائيلياً داخلياً"، لا يجوز التطرق إليه، أو التدخل فيه!