عن التناقضات البنيوية للاستعمار الصهيوني في فلسطين

عن التناقضات البنيوية للاستعمار الصهيوني في فلسطين

26 يونيو 2022
ظن بن غوريون أن الجيش سيكون قادراً على حل التناقضات ضمن عسكرة كاملة للمجتمع (Getty)
+ الخط -

يتزامن الجدال حول مآلات إسرائيل في عقدها الثامن، واستحضار التناقضات البنيوية التي صاحبتها منذ تأسيسها، مع قرار الذهاب إلى انتخابات مبكرة، ستكون الخامسة خلال ثلاث سنوات تقريباً، والتي يمكن اعتبارها بمثابة تعبير سياسي إضافي عن تلك التناقضات الكامنة بالكيان الصهيوني الاستعماري في فلسطين. 

بداية ومنهجياً، نتحدث عن كيان استعماري؛ لا بد أن يحمل بالضرورة بذور تناقضاته معه، ومن ثم حيثيات ومعطيات زواله الحتمي.

تنبه مؤسس إسرائيل، وأول رئيس وزراء لها دافيد بن غوريون، منذ البداية إلى تلك التناقضات، وأصعبها كيفية إنشاء كيان ينتمي أو يدعي الانتماء إلى المنظومة الغربية الحديثة والعلمانية والديموقراطية، ولكن على أسس وأساطير دينية توراتية قديمة، لا يؤمن بها حتى الرعيل الأول من المؤسسين، مثل تيودور هرتزل وحاييم وايزمن إضافة إلى غوريون نفسه، هذا تبدى مباشرة في معضلة أو إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، والتي لم تحل حتى الآن، ولا تزال تتفاعل مع الزمن، وأدت في السياق إلى الانقسامات العميقة التي نراها في المجتمع الصهيوني، مع الانتباه إلى أن المتدينين لم يؤمنوا أصلاً بالفكرة الصهيونية، وهاجروا فقط هرباً من الاضطهاد الأوروبي، غير أن الانتصار المفاجئ وغير المتوقع في حرب يونيو/ حزيران 1967؛ قياساً لموازين القوى مع الدول العربية؛ اعتبروه نبوءة إلهية، أدى إلى تغيير في قناعاتهم، وبالتالي الاعتراف بالدولة والتعاطي معها، ولكن بحذر مع الاحتفاظ بذهنية الغيتو - حي بني براك مثلاً - في نمط وطريقة حياتهم، مع رفض قطاعات واسعة جداً منهم التجند في الجيش، وحتى العمل بذريعة التفرّغ لتعلّم التوراة، بحيث باتوا فعلاً عبئاً على الدولة، علماً أننا نتحدث عن ملايين كثر وربع السكان تقريباً.

تقارير عربية
التحديثات الحية

الحديث بل التشدق بتأسيس كيان ديموقراطي مزدهر في بيئة استبدادية صحراوية لم يستقم مع السيطرة بالقوة القهرية على الشعب الفلسطيني في آخر احتلال بالتاريخ المعاصر، ما أدى أيضاً إلى تجاذبات وخلافات داخل الكيان، مع استحالة الجمع عملياً بين الديموقراطية والاحتلال نفسه وانهيار صورة الضحية في الخارج، وتزايد الانتقادات العالمية، وبالطبع تقليص الدعم متعدد المستويات، أمام صعوبة إخفاء الاحتلال أو كنسه عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي.

منعت التناقضات العميقة السابقة بلورة دستور جامع للدولة العبرية هرباً من الرد على المعضلات والإشكاليات البنيوية، التي وعى بن غوريون أنها عائدة أساساً إلى طبيعتها الاستعمارية والعنصرية. وهذا الأمر وقف خلف الأزمات المؤسساتية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة يوماً بعد يوم، والذي يتجلى مثلاً في النظام النسبي، وعتبة الحسم المتدنية بالقانون الانتخابي، لتمثيل كل التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي احتدام التجاذب والصراع حول السلطات والميزانيات للكتل الاقتصادية والاجتماعية والعرقية المختلفة. وباختصار ما كان بالإمكان إقامة نظام سياسي مستقر، في ظل التناقضات البنيوية، والدولة طال عمرها أكثر مما ينبغي، أساساً بسبب الدعم الخارجي والأداء السيئ بل الكارثي للأنظمة العربية، التي قال عنها وزير الدفاع السابق موشيه دايان إننا محظوظون بأعداء كهؤلاء.

ظن بن غوريون كذلك أن الجيش سيكون قادراً على حل التناقضات ضمن عسكرة كاملة للمجتمع، وتجنيد إجباري للشباب ذكوراً وإناثاً، باعتباره بوتقة الصهر، حسب تعبيره، لكافة الفئات والعرقيات في جيش الشعب حسب تصوره وتعبيره أيضاً.

مع الوقت تعمق الانقسام، واتسع وازداد عدد المتدينين غير المجندين، وارتفعت نسبة التهرّب من الخدمة لأسباب عدة، بحيث تحولت بوتقة الصهر إلى جيش نصف الشعب، حسب تعبير وزير الدفاع ورئيس الوزراء السابق الجنرال إيهود باراك في مطلع الألفية، ثم إلى جيش ثلث الشعب، كما يقول المفكر الاستراتيجي الآخر رئيس الأركان السابق الجنرال غادي إيزنكوت.

في هذا الصدد، كان هناك كلام مهم جداً وذو مغزى لرئيس الوزراء السابق إسحق رابين، مفاده أنه اضطر إلى التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف بها، ليقينه أن الجيش بات عاجزاً عن الانتصار في أي حرب جدية مع الدول العربية.

إلى ذلك ما كان بالإمكان الجمع بين الديموقراطية واليهودية، بحيث باتت الدولة ديمقراطية لليهود ويهودية للعرب، وكان التمييز العنصري موصوفاً بحق عرب 1948، الذين خضعوا فعلاً لحكم عسكري لعقدين تقريباً، ثم بات فصل عنصري بحق عرب 67، ما يعني أننا بتنا أمام دولة عنصرية كاملة الأوصاف، ودولة كهذه لا يمكن أن تعمّر بالتأكيد، وستنفجر تناقضاتها بالتأكيد عبر الزمن.

فيما يخص الاحتلال، فقد تنبأ الفيلسوف يشيعياهو ليبوفيتش منذ نهاية ستينيات القرن الماضي بأنه سيدمّر إسرائيل، بعدما يحمل الجنود العنف معهم إلى مجتمعهم وبيئتهم الداخلية. وفعلاً نرى الآن مظاهر العنف والتهديد، وحتى التحذير من حرب أهلية مرده إلى هذا، إضافة طبعاً إلى التناقضات البنيوية سالفة ولاحقة الذكر.

مرتبطة بالعسكرة والاحتلال أيضاً ثمة عبارة شهيرة لموشيه دايان تقول إن إسرائيل دولة قائمة على حد السيف، وهذا صحيح وعطب بنيوي أيضاً، حيث سيهترئ ويصدأ السيف حتماً، ولا يمكن لدولة أن تعيش لسنوات وعقود طويلة على حد السيف في بيئة معادية أصلاً.

في التناقضات، تجدر الإشارة إلى عدم حل القضية الفلسطينية حرباً وسلماً، والعجز عن تقديم الحد الأدنى المقبول فلسطينياً، حتى مع قبول القيادة بخمس أراضي فلسطين التاريخية، مع حل عادل لقضية اللاجئين وفق القرار 194، مقابل ما تعرف بثوابت الإجماع الصهيونية الثلاث، لا تقسيم، لا انسحاب إلى حدود حزيران/ يونيو 67، ولا لعودة اللاجئين إلى القرى والبلدات والمدن التي هجروا منها قسراً في عام 1948.

هذا التطرف سيؤدي حتماً إلى زوال وتدمير الدولة، كما تنبأ بن غوريون نفسه أيضاً في واقعة شهيرة، حيث خطب في البرلمان "الكنيست" أوائل خمسينيات القرن الماضي قائلاً إنه سيشكل حكومة مع الجميع باستثناء حزبي ماكي وحيروت، فسأله أحد مساعديه أنه يفهم سبب استبعاد ماكي كونهم شيوعيون وبينهم عرب، ولكن لماذا حيروت - الحزب الأم لليكود - وهم صهاينة ساهموا معنا في حرب الاستقلال وتأسيس الدولة، فأجابه بن غوريون أنهم خياليون، أعطهم السلطة يدمرون الدولة.

في التناقضات البنيوية أيضاً، نحن أمام نبتة غريبة زُرعت في بيئة مناقضة ومعادية بدعم خارجي بمستويات مختلفة. وهذا الكيان لن يبقى دون العلاقة الخاصة مع القوى العظمى كبريطانيا سابقاً ثم أميركا حاضراً، كون إسرائيل حاملة طائرات برية للقوى العظمى، كما كان يقول رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون، وهي ستغرق حتماً، أو ستهترئ مع الوقت وسترفع من الخدمة، أو يستغني عنها مشغلوها.

أخيراً، وباختصار وتركيز، سيتآكل الدعم الخارجي مع الوقت حتماً، خاصة مع الصمود والعناد الأسطوري للشعب الفلسطيني لقرن تقريباً في مواجهة الاستعمار والاعتماد على القوة، ما ساهم ويساهم في تظهير وتعميق التناقضات أكثر وإخراجها إلى العلن، بما في ذلك طغيان العسكرة وحمل السلاح. ويمكن في هذا الصدد تذكر كيفية التعاطي مع موجة العمليات الفردية الأخيرة، والدعوة لتسلّح المجتمع، وتضاعف طلبات تراخيص حمل السلاح آلاف المرات، ويكاد مشهد مئات مسلحين من أعضاء الأجهزة الأمنية، وعناصر الاحتياط، موجهين أسلحتهم إلى الأعلى، نحو بناية شكوا في وجود مقاوم فلسطيني فيها، يلخص كل المشهد لجهة التناقضات والمآلات أيضاً.