شهادات من جحيم بوتشا... الطريق إلى الجنائية الدولية طويل

شهادات من جحيم بوتشا... الطريق إلى الجنائية الدولية طويل

27 ابريل 2022
أجمع ناجون من بوتشا على فظاعة ما شهدته المدينة (Getty)
+ الخط -

بعد مرور قرابة شهر على انسحاب القوات الروسية من مدينة بوتشا، الواقعة في ضواحي العاصمة الأوكرانية كييف، نهاية شهر مارس/آذار الماضي، تتزايد ملامح التحركات الدولية لمحاكمة المتسببين في حوادث القتل الجماعي التي طاولت السكّان المدنيين في المدينة، والتي كشف عنها بعد انسحاب القوات الروسية منها، حيث يقدّر عدد الضحايا بالمئات.

وتُتهم القوّات الروسية بارتكاب سلسلة من عمليات القتل الجماعي أثناء احتلالها لبوتشا، والذي استمر بين 4 و31 مارس، بينما تصر موسكو على نفي وقوفها وراء مجزرة بوتشا، مشككة في وقوعها من أساسه.  

وفي الوقت الذي تمكنت فيه بعثة الأمم المتحدة إلى بوتشا أخيراً من توثيق مقتل نحو 50 مدنياً في المدينة، بمن في ذلك في إطار إعدامات تعسفية، كان محققو المحكمة الجنائية الدولية، ومقرها مدينة لاهاي الهولندية، يعملون على دراسة الوضع على الأرض، للتأكد مما إذا كانت هذه الحوادث تقع ضمن اختصاصات المحكمة، المعنية بالتحقيق في جرائم الحرب وضد الإنسانية. 

ومن مؤشرات جدية الجنائية الدولية في عزمها بالتحقيق في ما جرى في بوتشا، توقيع رئيس الادعاء في المحكمة، كريم خان، والمدعين العامين في ليتوانيا وبولندا وأوكرانيا، أول من أمس الإثنين، على اتفاق لأول مشاركة للمحكمة في فريق تحقيق، إذ أعلنت وكالة الاتحاد الأوروبي المعنية بالتعاون في مجال العدالة الجنائية، "يوروجست"، أن "الجنائية الدولية" ستشارك في الفريق المشترك الذي يحقق في ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا عقب الغزو الروسي.

ستشارك الجنائية الدولية في الفريق الدولي المشترك الذي يحقق بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا

وأوضحت الوكالة، في بيان أنه "بهذا الاتفاق، ترسل الأطراف رسالة واضحة مفادها أنه سيتم بذل كل الجهود لجمع أدلة فعّالة حول الجرائم الدولية الأساسية التي ارتُكبت في أوكرانيا وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة".

وكانت ليتوانيا وبولندا وأوكرانيا قد وقّعت اتفاقاً في شهر مارس/آذار الماضي، لتشكيل فريق لتبادل المعلومات والتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المشتبه فيها، فيما فتح خان تحقيقاً في جرائم حرب محتملة ارتُكبت في أوكرانيا بعد تلقي المحكمة طلبات من أكثر من 40 بلداً عضواً في نظام روما الأساسي للمحكمة للتحقيق في الأعمال الروسية. ومن اللافت أن أوكرانيا ليست من بين هذه الدول، كونها لم تصادق على نظام روما حتى الآن. 

شهادات للناجين من بوتشا

تقول سيّدة أوكرانية، تدعى يانا، وهي من هؤلاء الناجين، لـ"العربي الجديد": "استيقظت على أصوات انفجارات مروعة عند الساعة الخامسة من صباح 24 فبراير/شباط الماضي (تاريخ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا)، وهذه هي اللحظة التي بدأت فيها الحرب بالنسبة إلي. بدأ الروس أولاً بقصف مطار غوستوميل العسكري، وتوالت حوادث مقتل المدنيين منذ ذلك اليوم". 

وعلى الرغم من ذلك، قرّرت يانا وأسرتها عدم مغادرة المدينة. وتضيف راوية تجربتها: "منذ اليوم الأول، جرى إطلاق النار على سيارات المدنيين الذين كانوا يحاولون مغادرة المدينة، فقررت البقاء في المنزل. ومنذ اليوم الثاني من الحرب، واجهنا انقطاع المياه ثم الغاز، ما اضطرنا للنوم مرتدين ملابسنا وطبخ الطعام على النار في الفناء، ورفع المياه من آبار المنازل الخاصة. لم نتمكن من المغادرة سوى بعد فتح الممر الأخضر (المتفق عليه بين روسيا وأوكرانيا)".  

أما فيرونيكا، المتحدرة من مدينة إربين، فذهبت برفقة زوجها إلى بوتشا للالتحاق بوالدتها وشقيقها الأصغر عند بدء الحرب، لكنها وجدت نفسها عالقة هناك. 

تقول فيرونيكا لـ"العربي الجديد": "لم يتوقف الضجيج في الأيام الأولى، إذ كانت الطائرات تحلق على ارتفاع منخفض فوق منزل والدتي الواقع على بعد 3.5 كيلومترات فقط من مطار غوستوميل. لم يتوقف دوي الانفجارات والقصف، ولو لساعة واحدة". 

بعد هدوء الوضع، ذهبت فيرونيكا وزوجها إلى مركز التطوع للمشاركة في إيصال المواد الغذائية والأدوية إلى السكان، قبل أن يختبئا في المنزل بعد زيادة كثافة أعمال القتال، ولم يتمكنا من المغادرة إلا بعد فتح "الممر الأخضر" في اليوم الـ14 من السيطرة الروسية على المدينة.  

عند بدء المروحيات الروسية تحليقها فوق بوتشا، لم تجد سفيتلانا وعائلتها من حيلة سوى إطفاء الأضواء وتعليق بطاطين على النوافذ، وتخزين الطعام والمياه قبل انقطاعها، شأنها في ذلك شأن الكهرباء والغاز. 

وتقول سفيتلانا لـ"العربي الجديد": "سرعان ما انتهى شحن الهواتف الذكية، ولكن جهاز راديو قديماً أنقذ حياتنا، حيث إننا علمنا من البث الإذاعي أنه لا يجوز مغادرة المنازل. في الأيام الأولى، ظلّ عناصر القوات الشيشانية يرددون باللغة الروسية "(الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي استسلم. اخرجوا إلى الحافلات"، التي كان يتم بواسطتها نقل الناس إلى بيلاروسيا. لكن بعد يومين فقط، لم نعد نسمع شيئا باستثناء الانفجارات والقصف المتواصل".  

في نهاية الأمر، تمكن زوج سفيتلانا من القدوم من كييف وتهريبها من بوتشا بسيارته عبر شوارع فرعية ظلت آمنة نسبيا.  

مجزرة بوتشا إلى لاهاي: طريق طويل 

طريق طويل يفصل أوكرانيا والعالم عن التوصل إلى المتسببين في ما جرى في بوتشا ومساءلتهم، وقد تحول دون ذلك عقبات إجرائية، مثل عدم انضمام أوكرانيا إلى نظام روما، وتوقعات مؤكدة برفض روسيا تسليم المطلوبين من رعاياها، حتى في حال صدرت بحقهم مذكرات اعتقال.

سيرغي غولوبوك: الهدف ليس معاقبة المنفذين فقط، بل أيضا المسؤولين الكبار عن الجرائم، بمن فيهم قادة الدول

ومع ذلك، يوضح المحامي الروسي سيرغي غولوبوك، المصرح له بالعمل في المحكمة الجنائية الدولية، أن اعتراف كييف باختصاص المحكمة يتيح لها التحقيق في الحوادث التي وقعت على أراضي أوكرانيا، على الرغم من عدم انضمام هذا البلد إلى نظام روما.

ويؤكد غولوبوك أن الهدف من المحاكمات لا يكمن في معاقبة المنفذين في حدّ ذاتهم، وإنما أيضًا في معاقبة المسؤولين الكبار عن الجرائم، بما يصل إلى عدم تمتع حتى قادة الدول بأي حصانة أمامها.  

ويشرح غولوبوك، في حديث لـ"العربي الجديد" من لاهاي: "تقدمت 43 من الدول الأعضاء بنظام روما في ثلاث قارات، ومن كندا إلى اليابان، إلى المدعي العام بطلب المباشرة في التحقيق، وهو فعل ذلك. لم تتقدم أوكرانيا بهذا الطلب بنفسها، لأنها ليست عضواً في نظام روما بسبب مشكلاتها الدستورية، ولكنها اعترفت منذ عام 2014 باختصاص هذه المحكمة المعنية بالتحقيق في حوادث جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. وتصل العقوبة القصوى للمدانين فيها إلى السجن المؤبد".  

وحول مستوى الشخصيات الذين قد يحاكمون في حال ثبت تورطهم في مجزرة بوتشا، يضيف: "هناك اعتقاد شائع بأن المحكمة ستقاضي المنفذين فقط، ولكن ذلك غير صحيح. في حالة محاكمات نورنبرغ لقادة ألمانيا النازية، مثلاً، تولت محاكم محلية لا دولية أمر المنفذين. لا مساس بحق أوكرانيا وغيرها من الدول التي يقيم فيها المجني عليهم، في إجراء تحقيقاتها الجنائية". 

ويلفت المحامي الروسي إلى أن المحكمة الجنائية الدولية ليست مخصصة فقط للمنفذين، وإنما لمن يتحمل المسؤولية الأكبر. ويضيف أن نظام روما "لا يمنح أي حصانة لقادة الدول ولا يعفيهم من المسؤولية، بل ينطلق من أن القائد الأعلى يدرك ما تفعله قواته". 

ويشرح غولوبوك أن هناك خيارين أمام الجنائية الدولية لمساءلة الجناة في حال كانوا داخل روسيا ورفضت تسليمهم. ويضيف: "ستنتظر لحين تنفيذ مذكرة الاعتقال. لم يمثل القيادي في مليشيا الجنجويد، علي كوشيب، المتهم بجرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية في دارفور، أمام الجنائية الدولية، إلا في عام 2019 بعد عزل الرئيس عمر البشير وتغيير السلطة في السودان. على الأرجح، هذا هو السيناريو الأكثر واقعية. أما البشير نفسه، المودع في السجن في السودان بموجب حكم قضائي محلي، فلم يتم تنفيذ مذكرة التوقيف بحقه بعد بسبب المشكلات السياسية الداخلية في البلاد". 

وفي ما يتعلق برؤيته للخيار الثاني، يلفت غولوبوك إلى أنه "قد تصدر مذكرات توقيف غير علنية، وقد يذهب هؤلاء في زيارة إلى تايلاند، مثلاً، ثم إلى لاهاي. في الظروف الحالية، لا شك أن روسيا لن تسلم أحداً، ولكنها ليست البلد الوحيد في العالم". 

وكانت القوات الروسية قد دخلت إلى بوتشا في 27 فبراير/شباط الماضي، ولم تغادرها سوى مع بداية إبريل، في إطار إعادة تموضع الجيش الروسي في الداخل الأوكراني وتركيز عملياته في مناطق جنوب شرقي البلاد.  

وبدأت صور جثث أشخاص بأزياء مدنية والدمار الهائل الذي لحق بالمدينة في الانتشار عبر الإنترنت بعد دخول صحافيي وكالتي "فرانس برس" و"رويترز" إلى المدينة المنكوبة، في أعقاب إعلان وزارة الدفاع الأوكرانية عن استعادة السيطرة الكاملة على مقاطعة كييف.   

وبحسب أرقام النيابة المحلية، فإنه بعد خروج القوات الروسية، تمّ العثور على جثامين 278 قتيلاً في المدينة، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، ناهيك عن عشرات دفنوا في مقابر جماعية بعد امتلاء المشارح أثناء الاحتلال الروسي للمدينة.  

وقالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير مفصّل أصدرته في 21 إبريل الحالي، إن القوات الروسية ارتكبت على ما يبدو سلسلة من جرائم الحرب أثناء احتلالها بلدة بوتشا، بين 4 و31 مارس الماضي. وبحسب المنظمة، فقد وجد باحثوها الذين عملوا في بوتشا من 4 إلى 10 إبريل، أدلة كثيرة على حصول إعدامات ميدانية، وعمليات قتل غير قانونية أخرى، وأعمال إخفاء قسري وتعذيب، وكلها من شأنها أن تُشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

من جهتها، نفت وزارة الدفاع الروسية الاتهامات التي يوجهها "النظام" في كييف (بحسب ما تسمي السلطات الأوكرانية برئاسة زيلينسكي) إلى العسكريين الروس بارتكاب "جرائم" في بوتشا، على حدّ تعبيرها، واصفة الصور ومقاطع الفيديو التي تمّ تداولها بأنها استفزاز.