جان أسيلبورن... فلسطين تخسر صديقاً

جان أسيلبورن... فلسطين تخسر صديقاً

22 نوفمبر 2023
شغل أسيلبورن منذ 2004 منصب وزير خارجية لوكسمبورغ (جون تيس/فرانس برس)
+ الخط -

لطالما كان وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبورن، شخصية غير مرغوب بها في إسرائيل، بسبب مواقفه الجريئة الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني وإيمانه بأن السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق إلا بتطبيق هذه الحقوق.

اليوم تبدو دولة الاحتلال سعيدة بإعلان أسيلبورن أواخر الأسبوع الماضي اعتزاله السياسة بعدما خسر الحزب الاشتراكي الانتخابات في لوكسمبورغ وخرج من الحكومة، فهي "تدرك جيداً أن أسيلبورن كان القوة الدافعة وراء أغلبية الاقتراحات المناهضة لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي، وكان نشطاً في الضغط من أجل اتخاذ تدابير مماثلة في الأمم المتحدة"، بحسب موقع "يديعوت أحرونوت". وأدت مواقفه الأحادية إلى إعلان إسرائيل عنه شخصاً غير مرغوب به، ولم يقم بزيارتها منذ عام 2016.

تحذيرات مبكرة من سقوط حل الدولتين

أسيلبورن، المولود في العام 1949، شغل منذ 2004 منصب وزير الخارجية والهجرة (منذ حكومة جان كلود يونكر). دخل المعترك السياسي منذ عام 1984 كنائب في البرلمان عن حزب العمال الاشتراكي، وكان قبلها بعامين عمدة مدينة ستاينفورت. وأصبح رئيس الكتلة البرلمانية للحزب في 1989، وفي الفترة بين 1997 و2004 تزعّم الحزب الاشتراكي.

منذ ترأّسَ دبلوماسية بلده في العام 2004، تبنّى أسيلبورن موقفاً يقول إن المشكلة الأساسية في الشرق الأوسط هي أن "الفلسطينيين عاشوا منذ العام 1967 تحت الاحتلال، سواء في القدس الشرقية أو الضفة الغربية أو غزة". وأكد بوضوح أنه مع مرور الوقت فإن "ما تسمى عملية السلام، أي حل الدولتين بإقامة دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية تكون القدس عاصمتهما، أصبحت حلماً بعيد المنال".

كما صرح في مقابلة إذاعية أثناء عدوان الاحتلال على غزة في 2021، مقارناً بين عدد الضحايا الفلسطينيين والإسرائيليين (2021)، ومحمّلاً الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مسؤولية تدمير كل شيء "فلم تعد فكرة حل الدولتين موجودة". ووصّف واقع غزة بشكل واضح، حين ظل يقول: "يجب أن تعلم أنه في غزة لا يمكنك الخروج. إنه مكان مغلق. ولا توجد ملاجئ يمكن أن يلجأ إليها المدنيون".

حذر أسيلبورن مبكراً من "خطر اندلاع انتفاضة ثالثة"، و"خطر الهجوم البري على غزة"

وحذر مبكراً من "خطر اندلاع انتفاضة ثالثة"، و"خطر الهجوم البري على غزة، ما يعني أنه سيحدث هناك الكثير من الأشياء غير المقبولة". ومنذ الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، أثار الكثير من الانتباه. فهو منذ 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي رفض بالمطلق حالة "الهستيريا" السياسية والإعلامية التي قفز إليها الاتحاد الأوروبي، بعد يومين من عملية "طوفان الأقصى"، بما في ذلك تجميد المساعدات المالية للفلسطينيين. وشكّل موقفه الرافض لوقف دعم مؤسسات السلطة الفلسطينية، قبيل اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في 27 الشهر الماضي، ما يشبه أزمة صامتة وانقسامات بين الأوروبيين حيال الموقف من القضية الفلسطينية.

مقارنة بسيطة بين مواقف كل من أسيلبورن والممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل (منذ بداية العدوان الحالي) وأثناء المزايدات السياسية على من يظهر أكثر دعماً وتعاطفاً مع الاحتلال، تكشف المستوى الذي وصل إليه الافتراق بين مواقفهما. ففي حين كان بوريل يتحدث وكأنه سياسي من تل أبيب، وعن "حق إسرائيل بالدفاع عن النفس"، كان أسيلبورن، القادم من صفوف حزب العمال الاشتراكي اللوكسمبورغي، يؤكد ضرورة "عدم صب الزيت على النار".

صحيح أن أيرلندا والنرويج دعتا بعيد بدء العدوان على غزة لوقف إطلاق النار فوراً، إلا أن مواقف أسيلبورن لم تزعج فقط الأوروبيين، بل الضفة الأخرى من الأطلسي، إذ عُرف بمواقفه الناقدة لسياسات واشنطن في فلسطين. ودخل في عهد ترامب، في ما يشبه ملاسنات مع وزير خارجيته مايك بومبيو، أثناء فترة طرح ما يسمى "صفقة القرن" (الخطة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية).

"السياسي الأوروبي الأكثر معاداة لإسرائيل"

ولعل توصيف "يديعوت" له أمس الأول الاثنين بأنه "ربما يكون السياسي الأكثر معاداة لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي"، تعبير واضح عن انزعاج الاحتلال منه. ونقل الموقع عن "مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى" لم يسمه، قوله إن "غياب أسيلبورن لن يكون أمراً مؤسفاً. نحن الآن مهتمون بشدة بصياغة فصل جديد في علاقاتنا مع لوكسمبورغ".

وبحسب "يديعوت"، برز أسيلبورن باعتباره وزير الخارجية الأوروبي الوحيد الذي رفض "اتفاقيات أبراهام" (اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية مع دول عربية)، معتقداً أنها لا تفيد الفلسطينيين. كما دافع عن الجهود الرامية إلى تشكيل تحالف من الدول الأوروبية المستعدة للاعتراف الجماعي بدولة فلسطين. ودعا بقوة إلى وضع علامات على البضائع الآتية من المستوطنات وفرض عقوبات على إسرائيل. وخلال مناقشة في مجلس حقوق الإنسان، انتقد إسرائيل لإدارة نظام الفصل العنصري.

مواقف أسيلبورن من الشعب الفلسطيني سببت له صداعاً مع الجانبين الصهيوني والغربي، وخصوصاً أن مؤيدي إسرائيل في أوروبا اعتبروا على الدوام أن مواقفه تنطلق من معاداة اليهود والسامية، كما هي عادتهم في مهاجمة أي موقف يشذ عن قاعدة الدعم الأعمى للاحتلال. فالموقف لديه واضح في مساعيه منذ سنوات من أجل الاعتراف الأوروبي الجماعي بالدولة الفلسطينية المستقلة.

برز أسيلبورن باعتباره وزير الخارجية الأوروبي الوحيد الذي رفض "اتفاقيات أبراهام"

ولم تتوقف محاولات تشويه سمعة أسيلبورن، خصوصاً من الأوساط الصهيونية الأوروبية ومؤيديها في القارة العجوز، بوصفه "اشتراكياً متطرفاً"، وأحياناً بأنه "أحمر" بسبب شال أحمر يرتديه. ولم توهن من عزيمته حتى في عز السجالات الأوروبية خلال الشهر الأخير، وفي أثناء الحرب الهمجية على غزة. فمعارضة الرجل لخطة ترامب للمنطقة (صفقة القرن) تقوم على إيمان وفهم عميق لما يجري في المنطقة العربية.

وتقوم قراءته لقضية فلسطين ليس على تحميل الفلسطينيين مسؤولية عدم قيام تلك الدولة، كما يفعل أوروبيون آخرون في ظل الدعم الكامل لتل أبيب، بل على اعتبار أن "المصالح الاقتصادية هيمنت، وأصبحت عملية السلام هي الاهتمام الثالث، أما الانتخابات الفلسطينية فقد أراد محمود عباس تنظيمها، لكنها واجهت مشكلة عدم تنظيمها في القدس بسبب الإسرائيليين، هذا إلى جانب الانقسام الفلسطيني".

حتى في مسألة الاستيلاء على المنازل الفلسطينية في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، كانت مواقف أسيلبورن تثير حنق الاحتلال ومعسكر التطرف القومي، بتحريض عليه داخل لوكسمبورغ وعلى المستوى الأوروبي. كما انتقد بكل صراحة الموقف الأميركي بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، كأحد عناوين تأزيم الأوضاع. كما وجّه انتقاداته لما تسمى "اتفاقيات أبراهام".

انتقادات للمواقف الأوروبية

انتقد أسيلبورن المواقف الأوروبية التي لم تعد واضحة مثل ما كانت عليه بين عامي 2008 و2016، "حيث كان للاتحاد الأوروبي موقف واضح مفاده أن حدود 1967 يجب أن تشكل الدولتين، وأن القدس هي عاصمة إسرائيل وفلسطين. لكن كل ذلك تحطم". وأشار في السياق إلى تغيّر المواقف الأميركية التي دان من خلالها رئيسها السابق باراك أوباما عام 2014، الاستعمار الإسرائيلي، وتحدث علناً عن "حدود عام 1967 وعن القدس عاصمة للدولتين"، بينما منذ عهد ترامب تحولت المسألة إلى "تخلٍ عن مشكلة الشعب الفلسطيني، والاعتقاد بأن الانفتاح الدبلوماسي (التطبيع) مع الدول العربية أكثر أهمية من محنة ملايين الفلسطينيين".

وشدد في لقاءاته الدبلوماسية والإعلامية على مدار سنوات خدمة بلده لوكسمبورغ، على أن أحداً على وجه الأرض لن يقبل العيش بما تمر به غزة من حصار، "ففي بلدنا يعيش 600 ألف إنسان، وهي أكبر من غزة بـ7 مرات، بينما مليونا فلسطيني يعيشون هناك محبوسين، في وضع لا يطاق". ومع أنه يقول "أنا لا أبرر إطلاق الصواريخ من غزة، لكن واقعها لا يمكن أن يكون مقبولاً، وهو وضع لا يمكن الدفاع عنه، لأنه سيتسبب في بداية مآسٍ وحروب جديدة".

وخلال الأسبوع الماضي، رفض الرجل بصورة واضحة "تحويل المستشفيات إلى ساحات قتال". وأكد أن "المرضى في وحدات العناية المركزة ليست لديهم فرصة. فلم يعد هناك أكسجين، ولم يعد هناك ماء، ولم يعد هناك المزيد من الأدوية. لذا فإن هؤلاء الناس سوف يموتون".

من النرويج وصولاً إلى إسبانيا، ثمة طراز جديد من السياسيين العارفين بمشاكل المنطقة العربية واعتبار القضية الفلسطينية عادلة

ومع ذلك، فإن مغادرة أسيلبورن للساحة، بعدما بقي طيلة عقدين يبوح بما يدور في الأروقة الأوروبية من امتعاض من السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، ليست نهاية المطاف. فمن النرويج شمالاً وصولاً إلى إسبانيا، حيث الاحتقان من السياسات الأوروبية الملحقة بواشنطن، ثمة طراز جديد من السياسيين العارفين بمشاكل المنطقة العربية واعتبار القضية الفلسطينية قضية عادلة ومرتبطة بآخر بقع الاستعمار. كما أن الحرب على غزة لم تساهم في العمق إلا بتثبيت أفكار من يشبهون أسيلبورن عن أن التنكر لحقوق ملايين الفلسطينيين ليس سوى وصفة لاستمرار الاضطهاد وجرائم الحرب المرتكبة.

قال أسيلبورن ذات يوم في مقابلة مع صحيفة "دير شبيغل" عن خطط ضم أراض من الضفة الغربية إن ذلك "ينتهك الوصية السابعة من الوصايا العشر: لا تسرق". ولعلها جملة أثارت حنق معسكر التطرف الديني الصهيوني في حكومة بنيامين نتنياهو، وخصوصا أنها ترافقت مع عمل الرجل على نيل اعتراف جماعي من دول الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطينية باعتباره "سيكتسب ديناميكية جديدة"، تتعلق بفرض عقوبات على دولة الاحتلال.

شيء من ذلك لم يتغير، ولن يختفي باختفاء هذا السياسي، فالديناميكية التي تراكمت حيال النظرة إلى دولة الاحتلال، ومدعومة بوعي شعبي أعاد القضية الفلسطينية إلى الصدارة، على الرغم من فداحة الأثمان في غزة والضفة، لن تخلق واقعاً يجعل تل أبيب بمنأى عن كل ما بشّر فيه أسيلبورن وغيره ممن اضطروا إلى ترك مناصبهم بعدما قرعوا جدران الغرب، وكشفوا عن ورطة ازدواجيته ونفاقه في القضايا المتعلقة بقيمة الإنسان وحياته، سواء في فلسطين أو في أوكرانيا.