يوجد مثل شعبي في الجزائر يقول "يريد اللبن ويخبي الطاس (الكأس)". ينطبق المثل على طرفي السلطة والحراك بمكوناته السياسية والمدنية. مشكلة السلطة أنها تريد أن تحصل على "الزبدة وثمن الزبدة" معاً، بينما يريد الحراك البقاء في الشارع والحصول على مفتاح المؤسسات دفعة واحدة.
بين الشجاعة الغائبة والرؤية المشوشة قليلاً، تعلّق مصير البلد في حبل؛ لا السلطة انتصرت واستتب لها الأمر برمته، وهي تحاول ذلك ولن تستطيع بفعل النفس الثوري المستمر، ولا الحراك نجح في أن يصنع مجاذيف تأخذ البلد من لحظة العطب، وتضع المطالب الديمقراطية المشروعة للجزائريين على مسار التنفيذ المرحلي.
ما تعرضه السلطة من تنازلات وتدابير تهدئة، يأتي على قدر متواضع جداً، مقارنة مع سقف عال من المطالب، ناهيك عن أنّ بعض التنازلات تُستنفد سريعاً من رصيد السلطة، بفعل بعض القرارات والممارسات الخاطئة. إذ لا يمكن إطلاق سراح معتقلي الحراك يوم السبت، وإعادة اعتقال متظاهرين آخرين يوم الإثنين. وكذلك لا يمكن الحديث عن النوايا للتغيير في خطاب الخميس، ثمّ استدعاء وجوه ظلّت ملتصقة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة 18 عاماً، إلى الحكومة الجديدة يوم الأحد. كما لا يمكن الترويج لصالح إقحام الشباب في البرلمان، ثم يلي ذلك بأسبوع، انتخاب ثمانيني رئيساً لمجلس الأمة.
أيضاً الحراك ليس مكوناً منسجماً، وليس حزباً سياسياً يسعى إلى السلطة، حتى وإن كان أصل وجود الحزب والتيار السياسي هو السعي للوصول إلى السلطة بالطرق والوسائل الديمقراطية، وليس السعي بين الصفا والمروة. وكل مطالب الحراك الشعبي المعلنة منذ فبراير/ شباط 2019 مشروعة ولا شك في ذلك، لكن ما يبديه الحراك من مواقف متصلبة وإصرار على التغيير الجذري، ورحيل النظام من دون أن تَجهز خريطة طريق بديلة، يبقي المسافة متباعدة بينه وبين السلطة. وهنا تبدأ مرحلة "الأذن المغلقة"، والأذن المغلقة لا تسمع.
هنا يقع العبء والمسؤولية الأكبر على السلطة، المطالَبة بأن تستمع بشكل أفضل مما سبق، وأن تفتح الأذن على قدر ما تستطيع، وبأن تكون أكثر شجاعة في الإقرار بأنها لا تملك حلاً، وبأنّ الانتخابات، أي انتخابات كانت، وحدها لا تفك العقدة، ولا تحلّ المأزق، إذا كانت بمعزل عن توفر ظروف وعوامل كثيرة، وبأنّ توليد وتشكيل مزيد من المجالس والمؤسسات الاستشارية، من دون حلّ أصل المشكلات السياسية والتمثيل المدني، هو تشكيل "لجثث إدارية" من طينة غير صالحة.
لا أحد يطالب السلطة والحراك ببدء علاقة رومانسية بينهما في الوقت الراهن. ثمة وسائط سياسية ومدنية مطالبة بأن تلعب دورها في إسناد الحراك وصياغة مطالبه والمرافعة لأجلها، ومنع السلطة وكفّ يدها عن التلاعب بالطموحات الشعبية والالتفاف عليها، وحماية البلد من استنفاد رصيد الصبر، وإنقاذه من أزمة انتخابات بلا ناخبين مجدداً... "الطاولة المستديرة" التي تغيّر تماماً من قواعد الممارسة السياسية ومن منتظم الحكم والعبور إلى المؤسسات، هي الضرورة التي لا مفرّ منها.