أين دور الضفة الغربية؟

أين دور الضفة الغربية؟

31 ديسمبر 2023
رفع راية حركة حماس في رام الله دعماً للمقاومة الفلسطينية (جعفر اشتيه/فرانس برس)
+ الخط -

منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما لحقها من عدوانٍ همجيٍ على قطاع غزّة؛ توالت نداءات عددٍ من قادة المقاومة بمطالبة الضفّة الغربية بالالتحام في هذه المعركة. غير أنّ تفاعل الضفّة الغربية مع الأحداث لم يكن على المستوى المأمول، أو المتوقع، مقارنةً مع أحداثٍ أخرى، كانت الضفّة فيها أكثر تفاعلًا على المستوى الشعبي، من خلال الاحتجاجات، والمواجهات الشعبية مع قوات الاحتلال. مثلًا؛ خلال عدوان عام 2014 أخذت الاحتجاجات الشعبية منحنىً تصاعديًا مع استمرار العدوان، وهذا على عكس ما نشهده حاليًا.

في بداية العدوان خرجت احتجاجاتٌ ومسيراتٌ واسعةٌ في الضفّة الغربية، ثمّ تراجعت تدريجيًا، وهذا ما يقودنا إلى الأسباب الجوهرية التي أسست هذه الحالة في الضفّة الغربية. فحركة الاحتجاج الشعبي، قد تحدث كردة فعلٍ غاضبةٍ تجاه أحداثٍ معينةٍ، لكن استمرارها يتطلّب أمورًا عدّة منها: القيادة، والتنظيم، والرؤية، وهذا ما تفتقده الضفّة الغربية اليوم.

يجمع عددٌ من الباحثين على أنّ أحدّ أهمّ عوامل اندلاع الانتفاضة الأوّلى كان وجود مؤسساتٍ ينتظم فيها الشعب الفلسطيني، مثل الاتّحادات العمّالية والمهنية والنقابات، والحركات الطلابية، ومجموعات العمل التطوعي، ومؤسسات الفصائل التنظيمية وغيرها. يضاف إليها مؤسساتٌ مهمةٌ، من أهمّها المساجد، إذ كانت الحركة الإسلامية في حينها تبني ما قد نعدّه جهازًا مرنًا غير رسميٍ، تحت مسمى "شباب المساجد"، الذي كان له دورٌ بارزٌ في الانتفاضة، وفي ظهور حركة المقاومة الإسلامية "حماس".

كانت هذه المؤسسات قادرةً على تحقيق وظيفتين أساسيتين، هما التعبئة والتنظيم، أي بثّ الوعي، والتعبئة الوطنية في صفوف أعضائها، وإمكانية حشدهم للمشاركة في الفعاليات الوطنية والاحتجاجية. لكن منذ نهاية الانتفاضة الثانية وما تبعها من انقسامٍ سياسيٍ، وتبنّي السلطة الفلسطينية لسياسات الليبرالية الاجتماعية (المقصود شيوع القيم المادية والفردانية في المجتمع)، مترافقةً مع قبضةٍ أمنيةٍ شديدةٍ، دخل المجتمع الفلسطيني في مرحلة تفكيكٍ مؤسساتيٍ وبنيويٍ وتغييبٍ تامٍ للفصائل الفلسطينية ومؤسساتها. مع مرور الوقت؛ لم يكن هناك سوى مؤسسات المجتمع المدني، الممولة غربيًا، التي ليس في أجندتها ممارسة الوظائف الأساسية للمجتمع المدني من تعبئةٍ وتنظيمٍ.

حولت السلطة الفلسطينية التعليم إلى النظام الإلكتروني (عن بعد)، لمنع إمكانية تجمع الطلاب وخروجهم في تظاهراتٍ

لكن؛ ظلّ المجتمع الفلسطيني في الضفّة الغربية قادرًا على التفاعل مع الأحداث بوتيرةٍ مختلفةٍ، رغم اتّسام هذا التفاعل برد الفعل غالبًا، لكنه كان أشد وأمتن مما نشهده اليوم. ولا بدّ من التنويه إلى أن مشكلة الضفّة الأكبر الآن ليست في تراجع تفاعلها مع العدوان على قطاع غزّة، إنّما تراجع هذا التفاعل مع الأحداث التي تجري في الضفّة نفسها. في فتراتٍ سابقةٍ كانت أحداثٌ معينةٌ، كارتقاء عددٍ كبيرٍ من الشهداء، أو الاعتداء على الأسرى والمقدسات، كفيلةً بإحداث هبّةٍ شعبيةٍ، حتّى لو كانت مؤقتةً، تتخذ طابع رد الفعل.

خلال العدوان على قطاع غزّة، تعرّضت الضفّة الغربية لعدوانٍ كثيفٍ أيضًا، وإن كان لا يقارن بما يتعرّض له قطاع غزّة وأهله، إلّا أنّه غير مسبوقٍ في الضفّة. خلال العام الحالي بلغ عدد شهداء الضفّة أكثر من 510 شهيدًا، أكثر من نصفهم ارتقوا خلال العدوان على قطاع غزّة، كما تصاعد عنف المستوطنين إلى درجاتٍ غير مسبوقةٍ، أدّت إلى تهجير آلاف الفلسطينيين البدو من تجمعاتهم المنتشرة في أرجاء الضفّة، وغير ذلك من سياسات العدوان المستمر.

هنا يأتي دور السياسات التي اتخذها الاحتلال منذ بداية العدوان بغرض تحييد الضفّة الغربية عن مجرى الأحداث. فقد اتخذ الاحتلال إجراءاتٍ استباقيةً لتحقيق هذا الهدف، منها تقييد حركة الفلسطينيين، لا سيّما بين مركز المحافظة ومحيطها، وبين كلّ قريةٍ وأخرى، وهذا الأمر له تأثيرٌ واضحٌ على الحدّ من إمكانية التجمع والاحتشاد. في الوقت ذاته شنت قوات الاحتلال حملة اعتقالاتٍ كثيفةً، طاولت جميع الشخصيات القيادية والنشطاء، ووجوه الحراك الجماهيري، ترافقت هذه الحملة مع بثّ سياسية الرعب، من خلال العنف المفرط، المترافق مع دعايةٍ موجهةٍ لإرهاب الناس من المشاركة في الاحتجاجات، أو حتّى التضامن عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا الأمر له تأثيرٌ مهمٌ في تراجع الاحتجاجات الشعبية؛ في الظروف العادية لا تفرط قوات الاحتلال في استخدام الرصاص الحي أثناء قمع الاحتجاجات.

منذ بداية العدوان خفف الاحتلال من قواعد إطلاق النار، ليسمح لجنوده بإطلاق الرصاص الحي على من يرمون الحجارة أو المفرقعات، وقد تمادى جنود الاحتلال في إطلاق النار لدرجة تنفيذهم إعداماتٍ ميدانيةً لشبانٍ وأطفالٍ، حتّى من غير المشاركين في الاحتجاجات. ما أدّى إلى بثّ الخوف في نفوس قطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمع، لأن احتمالية الاستشهاد، أو الإصابة البليغة أصبحت مرتفعةً جدًا.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

على صعيدٍ آخرٍ، لم تكن السلطة الفلسطينية معنيةً بحدوث احتجاجاتٍ شعبيةٍ واسعةٍ، خشية إفلات الأوضاع في الضفّة، وتحوّل الغضب الشعبي تجاهها لما يراه الناس من تقاعسٍ منها في التصدّي للعدوان، حتّى على الضفّة الغربية نفسها. لذلك عملت السلطة منذ اليوم الأوّل على التحكم في بعض أدوات الاحتجاج، مثل الإضراب، الذي رفضته منذ البداية تحت شعار "أنّ الحياة يجب أن تستمر"، وهذا الأمر أسهم في تراجع الاحتجاجات والتظاهرات، فمن المفترض أن تتحوّل أيّام الاضراب إلى أيّام احتجاجٍ وتظاهرٍ، لأن الناس يتخلصون من التزامات العمل. من ناحية أخرى؛ قمعت السلطة علانيةً التظاهرات في رام الله وجنين وغيرها، وأدّت إلى إصابة واعتقال العديد من المحتجين، فضلًا عن استشهاد ثلاثة مواطنين، بينهم طفلة في جنين برصاص السلطة الفلسطينية.

مع هدوء الشارع رويدًا رويدًا أخذت ظاهرةٌ جديدةٌ بالتصاعد، هي خروج طلاب المدارس ذكورًا وإناثًا للتظاهر، وهي حركةٌ لم يكن يتوقعها أحد. لكن حولت السلطة الفلسطينية التعليم إلى النظام الإلكتروني (عن بعد)، لمنع إمكانية تجمع الطلاب وخروجهم في تظاهراتٍ. هذه الأمور ليست خفية، فقد شكر عددٌ من القادة الغربيين السلطة الفلسطينية على دورها في الحفاظ على الهدوء في الضفّة الغربية، ومنع الاحتجاجات الشعبية.
كذلك؛ ترافقت هذه الإجراءات مع دخول المجتمع الفلسطيني في أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقةٍ، تمثّلت في إيقاف العمّال الفلسطينيين في الداخل عن عملهم، وتوقف رواتب السلطة الفلسطينية، عقب رفضها تسلم أموال المقاصة، ما انعكس على مجمل السوق الفلسطيني. مع هذا الوضع الاقتصادي الكارثي، أصبح معظم الناس منشغلين بالهم الاقتصادي، وبمستلزمات الحياة، والأقساط المترتبة عليهم من قروضٍ وشيكاتٍ وغيرها.

بطبيعة الحال، فإنّ اجتماع هذه المركبات من شأنه أن يخلق حالةً من السلبية تجاه الأحداث، خاصّةً إذا ترافقت مع شعور الناس بعدم جدوى التظاهرات، التي تجري في مراكز المدن بعيدًا عن المواجهة مع قوات الاحتلال، وشعورهم بأنّ المطلوب حاليًا أكبر من مجرد الاحتجاج الشعبي، نظرًا إلى خطر العدوان الحالي على غزّة والضفّة.

دخل المجتمع الفلسطيني في مرحلة تفكيكٍ مؤسساتيٍ وبنيويٍ وتغييبٍ تامٍ للفصائل الفلسطينية ومؤسساتها

مع ذلك كلّه، لا يصح القول بأنّ الضفّة الغربية غائبةٌ تمامًا عن مجرى الأحداث، فما زالت الموجهات الشعبية والمسلّحة والعمليات الفدائية تجري في الضفّة يوميًا، غير أنها لا تقارن بحجم العدوان الحالي. وتظلّ مسألة انفجار الأوضاع في الضفّة واردةً، لكنها تحتاج إلى محفّزاتٍ قويّةٍ، مثل وجود قيادةٍ قادرةٍ على توجيه الناس.