أحمد خالد توفيق.. محاربة الراحلين

أحمد خالد توفيق.. محاربة الراحلين

10 اغسطس 2019
+ الخط -
إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت، أو ما شاءت لك الأجهزة الأمنية. حرب إعلامية ضارية اندلعت فجأة ضد الكاتب الراحل، أحمد خالد توفيق، والسبب يرتبط بعبارة وردت في رواية كتبها قبل أحد عشر عاماً، تم تداولها بكثافة بعد مأساة التفجير أمام المعهد القومي للسرطان في القاهرة. في روايته "يوتوبيا" تخيل أحمد خالد توفيق مصر في مستقبل يخرج به الأثرياء وذوو النفوذ من القاهرة إلى الحياة داخل مدينة أنيقة مُسورة، حيث "يتركون العاصمة القديمة لتحترق بأهلها وتندثر ظلماً وفقراً ومرضاً، ويذهبون إلى عاصمتهم الجديدة، حتى لا تتأذى أعينهم بكل ذلك الدمار"، وهي عبارةٌ تسبب استدعاؤها في ما حدث.
أطلقوا أوصافاً بشعة وغير منطقية لآخر من يوصف بأنه "ضحل لغوياً وخاوٍ فكرياً"، فضلاً عن كيل السُباب لقرّائه بوصفهم "قطيعاً" من "المتثورجية والفوضويين والتوافه". ومحل القصيد هو "الاستدعاء المنظم والموجه لمقولاته الرثّة في كل مصيبة أو حادث إرهابي" على حد قول السيد رشدي أباظة في صحيفة روز اليوسف الحكومية، وهو اسم مستعار لمخبر صحافي، أو صحافي مخبر، تعرف الأوساط جيداً شخصيته وتاريخه. وصلت الحملة إلى مدى بالغ السوريالية بتفجير مفاجأة أن الراحل كان مرشحاً لتنظيم الإخوان المسلمين في انتخابات اتحاد طلاب جامعة طنطا عام 1983. وللمفارقة، كل من عرف الدكتور أحمد خالد توفيق شخصيا، بمن فيهم كاتب هذه السطور، يعرف أنه، سياسيا، كان صاحب هوى ناصري قوي، وإن لم ينتمِ لأي فصيل سياسي، كما أنه حكى سابقاً عن توقيفه في أثناء السفر للعمل في الخارج مرتين، بسبب أنه مصنّف في ملفه القديم من أيام الجامعة صاحب نشاط شيوعي، أي أنهم اليوم يجمعون في عبارة واحدة ملاحقة راحلٍ على واقعة لم تقع منذ أربعين عاما!
وفي الواقع تعود أزمة أحمد خالد توفيق الحقيقية مع ممثلي الدولة المصرية إلى لحظة وفاته التي تزامنت بالمصادفة مع إعلان النتائج الرسمية لانتخابات الرئاسة في العام الماضي. حينها بدا حدث تلك الانتخابات ضئيلاً جداً بالنسبة لملايين الشباب الذين اكتسحوا مواقع التواصل حزناً وحُباً، وتوافدت أعداد غفيرة منهم لحضور جنازته، مع أنها في محافظة الغربية خارج القاهرة. عبر الإعلامي عمرو أديب يومها عن اندهاشه، لكونه لا يعرفه مطلقا، وبالتأكيد لم يكن هذا لسانه وحده. مثلت ظاهرة هذه الشعبية الخفية داخل مصر وخارجها أمراً عصياً لدى الأجهزة الأمنية التي تتخوّف من وجود ظواهر خفية أخرى مفاجئة أكثر خطورة.
ولافت هنا فعلا أن الراحل كان قد وصف سابقاً نفسه بأنه يحظى بنوعٍ خاص جدا من الشهرة، يقتصر على شريحة عمرية محدّدة كل من فيها يعرفه، بينما لا يعرفه كل من هم أكبر أو أصغر، ويرتبط ذلك بإسهامه بالغ الثراء والإفادة لما يمكن توصيفه بـ"أدب اليافعين"، أي المرحلة الانتقالية بين الطفولة والشباب، بعمر 12 إلى 20 عاما، حلقة وسيطة بين مجلات ميكي والأدب الروائي الكلاسيكي، فضلاً عن محاولاته الروائية في نهاية حياته التي قرّر فيها تقديم أدب مختلف لجيل أكبر من القراء، أو لجيل قرّائه الذين أصبحوا أكبر بالفعل. يرتبط الهجوم على أحمد خالد توفيق أيضاً بنوازع شخصية لدى بعض توافه إعلاميي السلطة، حتى أن أحدهم سبق له المبالغة في التغزّل بالكاتب المعروف في محاولة لاجتذاب بعض شعبية قرّائه، ثم هو نفسه ظهر أخيرا مهاجماً الراحل والقراء، ولو للاستفادة بطريقة الأعرابي المتبوّل في زمزم.
لكن ما يفوتهم أن الأمر لا يقتصر على القدرات الأدبية والإفادة الثقافية. كان أحمد يمنحنا دروساً في مراعاة الأخلاق والضمير، تلك الكلمات القديمة اليوم! وفي التواضع الأصيل لا المصطنع، احترم جمهوره فاحترمه، وصدّقهم فصدّقوه، وهي أمور لا تُشترى ولا تُكتسب بعد أن تفقد.