أزمنة الشاذلي القليبي

أزمنة الشاذلي القليبي

19 مايو 2020
+ الخط -
"لأن الدواءَ يوشك أن يكون أشدّ من الداء"، استقال الشاذلي القليبي من منصبه أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، على ما كتب في رسالة استقالته صيف عام 1990، وكان الداءُ غزو العراق، برئاسة صدام حسين، دولة الكويت، فيما الدواءُ استقدام قواتٍ أجنبيةٍ للمشاركة في إنهاء ذلك الغزو، غير أن الرجل استشعر "مآرب معروفة، وحاجاتٍ في نفس يعقوب"، على ما كتب في تلك الرسالة التي تعدّ وثيقةً في أرشيف "العمل العربي المشترك" (!) غايةً في الأهمية. منذ تلك الاستقالة قبل نحو 30 عاماً، بالكاد صار يُصادَف اسم الشاذلي القليبي، في وسائط الإعلام، مع بعض حضورٍ شحيحٍ في منتدياتٍ ثقافية، حتى إذا نعاه الناعي، عن 94 عاماً، الخميس الماضي، بدا أن اسمه قادمٌ من أزمنة بعيدة، ثم تُستدعى محطاتٌ في سيرته، وهو المثقف العروبي والدبلوماسي الخبير، وصاحب إنجازاتٍ مشهودةٍ أدّاها في بلده تونس، وقد كان من أهم الطاقات التي انتقاها المؤسس الباني، الحبيب بورقيبة، بعد الاستقلال، بعد عودة الشاذلي من باريس متخرّجاً من السوربون في الآداب والفلسفة (غادر إلى فرنسا ليدرس الطب، ثم لم يفعل)، وكان من أولى مسؤولياته أنه تولّى منصب المدير العام للإذاعة والتلفزيون في 1958.
إذا كنّا في المشرق نتذكّر الشاذلي القليبي أنه الوحيد غير المصري الذي تسلّم منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، منذ قامت في 1945، (لا ينصّ ميثاقها على وجوب مصريّة الأمين العام)، لمّا انتقل مقرّها إلى تونس، وعُلّقت عضوية مصر فيها، بعد "كامب ديفيد" في 1979، وإذا لم يكن منسياً أن الرجل في 11 عاماً، تولّى فيها مسؤوليته تلك، عمل بحسّه العروبي المقيم فيه منذ شبابه الأول، وحاول واجتهد وأخلص، في ظروفٍ عربيةٍ رديئة، وإذا كان الباحث في أحوال الأمة ستستوقفه استقالة الشاذلي الاحتجاجية، فإن من المهم أن يُنظر إلى هذا كله موصولاً بما كان عليه هذا الرجل، الذي ربما كان محقّاً (إلى حد ما) القول إنه رجل الثقافة الذي ظلمته السياسة، قبل أن تُعهد إليه تلك المسؤولية العربية، سيما لمّا كان وزيراً للثقافة والإعلام في بلده، تونس، بين 1961 و1979 (تخلّلها عمله مدير ديوان الرئيس بورقيبة)، وهو الذي أسّس وزارة الثقافة، وبنيت في أثناء عهده فيها نحو مائتي دار ثقافة في جميع ولايات تونس، كما أن له الفضل في وجود ثلاثمائة مكتبة جهوية، على ما قال مسرحي تونسي، عدا عن أن الشاذلي القليبي كان وراء إقامة المهرجانات الفنية والثقافية العديدة والمتنوعة، التي ساهمت كثيراً بتنشيط المشهد الثقافي العام، المحلّي والعربي، ومنها أيام قرطاج السينمائية، المهرجان الرائد، والأهم عربياً في السينما. وعلى ما أفيد عنه أيضاً، كان الوزير القليبي منتبهاً، في عام 1963، إلى مسرح الطفل وأهميته، فأولاه اهتماماً خاصاً.
من بين عدة مؤلفاتٍ للراحل، كتابه "الثقافة رهان حضاري"، ويعكس هذا العنوان المنظور الفكري الذي كان يصدر عنه القليبي في تصوّره لدور الثقافة التي آمن بأهميتها الحيوية في بلده، مع التشديد على أركانها الأهم، اللغة العربية والإسلام والانفتاح على العالم، وذلك في اتّساق كبير مع نهج الرئيس بورقيبة. وظلّ يدعو إلى "اجتناب الغلو في الدين، لأنه يؤدّي إلى الخروج عن الجادّة". ومن كتبه أيضاً "العرب أمام قضية فلسطين"، القضية التي ظلت حقاً في جوانح القليبي، وقد شارك في ملتقياتٍ وتظاهراتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ عديدةٍ لنصرتها في غير بلد.
بذلك كله، وكثير غيره، ينتسب الشاذلي القليبي إلى النخبة العربية التي كان لها الإسهام الجوهري الأهم في بناء الدولة العربية الحديثة، بعد الاستقلال، سيما على الصعيدين، الثقافي والإعلامي، من النخبة التي وازت الحسّ العروبي مع إيمان عميق بدور حضاري للإسلام، مع الإفادة من ثقافات العالم ومنتجاته. لم يكن الراحل فرانكفونياً، وهو الذي درس في السوربون، كان بورقيبياً عتيداً. ومما كانت عليه تلك النخبة العربية من ذلك الجيل (أو أغلبها الكثير) أن قضية الحريات العامة والديمقراطية لم تكن من المفاهيم المتوطّنة في مداركها، ولا كانت من أولوياتها. ولعل هذا ما يفسّر صمت الشاذلي القليبي عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلده، وسكت بشأن غير واقعة في هذا الخصوص. وفي شيخوخته، لم نصادف له رأياً أو موقفاً بعد قيام الثورة في بلده. رحمه الله.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.