منافذ توزيع الإرهاب!

منافذ توزيع الإرهاب!

12 مايو 2020
+ الخط -
ما الذي يجعل من فلان إرهابيا؟ ما الحد الفاصل بين كونه متدينا، وهذا حقه، وكونه متطرّفا وعدواً للمجتمع؟ ما النقطة التي يتجاوز فيها حقه في الاعتقاد إلى حقوق الآخرين، ويصبح من حق الآخرين الدفاع عن أنفسهم بمهاجمته، أو المطالبة بعقابه، أو إبلاغ أجهزة الأمن عنه، أو إطلاق حملة ضارية عليه على مواقع التواصل؟ هل يوجد معيار لتمييز الإرهابي عن غيره؟ هل يوجد ميزان لتحديد وزن الأفكار الإرهابية وتمييزها عن الأفكار المحافظة أو المتشددة؟ نحاول الإجابة، ومن ورائنا تجارب سياسية إسلاموية مفجعة، راح ضحيتها الآلاف، وسجن الآلاف، وتشرّد الآلاف، وغادر الآلاف، بل الملايين، أوطانهم في قوارب الموت. تمزّقت روابط، وتشتتت أسر، وتحطّمت حيوات، وفشلت ثورات، ولم يعد بالإمكان التفكير بمعزل عن مسببات الغضب والألم والحسرة والغيظ.
عاد، قبل أيام، "تريند" ابن تيمية إلى الظهور، بسبب مسلسل الاختيار، كانت الجملة الحوارية التي استدعته تحمل استشهادًا منسوبًا إليه يبرّر قتل المدنيين. حاول "قرّاء" ابن تيمية ردّ الجملة إلى سياقها ونسبتها بشكل صحيح إلى قائلها ومناقشة الاحتجاج بها بهذا الشكل، غير العلمي، وغير الدقيق. ضاع صوت القراءة أمام صراخ القبيلتين، الأنصار يبرّرون، والخصوم يؤرهبون. تصوّرت أن المعيار الحاسم، وربما الوحيد، هو كتب الرجل التي ثبتت يقينًا نسبتها إليه، أفكاره المكتوبة، لا أفكار من يختبئون خلفه، أو من يتذرّعون به، إلا أن كتب ابن تيمية، وإسهاماته الفقهية والفلسفية والسياسية، وحسّه النقدي، ونضالاته من أجل تحرير بلاده، ومواجهته الاستبدادين الديني والسياسي في زمانه، وسجنه واعتقاله، ومواقفه وعباراته ونصوصه الواضحة التي لا تحتمل اللبس أو التأويل، في رفض تكفير المعين وتجريمه، ونبذ التعصب للأشخاص، وضرورة العودة إلى النصوص الأصلية، وحق الاختلاف مع الأئمة الأربعة، وغيرها من النصوص التي تشهد له بالوعي، وتُخرجه من دوائر التطرّف والإرهاب المتخيلين.. ذلك كله ذهب أدراج الصراخ و"الهبد" الإلكتروني، وصارت معايير التقييم اجتزاءات من فتاوى ظهرت منسوبة إليه بعد موته بمئات السنين، ومقاطع فيديو ساخنة، ومقدّمات نارية، لبرامج تنوير حكومية ترى أن التخلف والانحطاط سببهما ابن تيمية والبخاري، وليس عبد الفتاح السيسي وحسني مبارك، وأن تجاوز أفكار القدماء، وحده، هو الوصفة السحرية، والسريعة، للتقدم والازدهار!
يتجاوز الأمر ابن تيمية إلى أغلب قضايانا، سيما الدينية. استدعاء فرج فودة تتبعه بالضرورة اتهامات لكل من اختلف معه في حياته، باعتبارهم شركاء في جريمة اغتياله. تجريح "أفكار" فودة، ووصفها بالاستشراقية، هو تمهيد للقتل!، كلام الشيخ محمد الغزالي، إن صحّ، وقوله ساخرا عن فودة وتياره "ربنا ياخدهم"، وهي عبارة يستخدمها المصريون يوميا، حتى مع أطفالهم، هو أمر مباشر بالقتل، وتكليف بالاغتيال، ومشاركة في الجريمة، حتى الذين سكتوا طاولتهم اتهامات كاذبة بالتوقيع على بيانات تدعم القتل.
أخبارنا اليومية، بدورها، دخلت المفرمة، تعيين توكّل كرمان في مجلس حكماء "فيسبوك" يعني أن "فيسبوك" داعم للإرهاب، كومنتات قديمة للفنان أحمد الرافعي، أحد أبطال مسلسل الاختيار يتهجم فيها على فرج فودة، ويصفه بأوصاف قبيحة ومنحطة، حوّلته إلى إرهابي، وداعشي، وغير مستحق للانتماء إلى الفن، ومثله مثل الإرهابيين في سينا!، اكتشاف بوستات مؤيدة للرئيس محمد مرسي على صفحة الشهيد أحمد الكاملي، إخواني وشهيد، مؤيد لمرسي وشهيد، معادلة لا تتناسب مع "مقاسات" التصنيف والتطييف، ظهرت تعليقات تتهم الصفحة بالتزوير، ثم محاولات ناجحة لحذف الصفحة، ثم محاولة بائسة لحذف اسمه هو شخصيًا من قائمة شرف الشهادة في موقع إحدى الجرائد التابعة للنظام، تراجعت عنها الجريدة، ثم وصل الأمر إلى اتهامه، في أحد "البرنتات" الرائجة، بأنه من أرشد عن زملائه، وتسبّب بموتهم، وعليه، فإنه ليس شهيدا بدمائه، بل إرهابي بانتمائه! حضرت أحكام القيمة، وغابت معايير التقييم، "العادلة"، هوس مجاني، طافح، يبحث عن "منافذ التوزيع"، وهو الهوس الذي يقابله الطرف الآخر بمثله، فينتج كلٌّ منهما الآخر، ويدعم كلٌّ منهما استمرار الآخر، وتظل الدائرة مغلقة، تحمل الجميع إلى العدم.