عزيزي مجدي يعقوب: لستَ وحدك

عزيزي مجدي يعقوب: لستَ وحدك

25 فبراير 2020
+ الخط -
عزيزي مجدي يعقوب: نحن مختلفان، ترى التديّن نقيضاً للإنسانية، وأراه مصدراً لها. لكنني من عشاقك، فرحٌ بك، مثل أي مصريٍّ يفرح لأبناء بلده الناجحين، فخور، مثل أي عربيٍّ يفخر بمن يحملون اسمه وملامحه إلى الآفاق. منحاز، مثل أي مسلم ينحاز لقيمة الرحمة، تلك التي يحملها مشرطك إلى قلوب المتألمين. والآن، أكتب إليك لكي أحدّثك عن الجنة.
تقول لمن يسألونك عن الجنة أنك تعيش فيها الآن. أتفهّم مجازك، في ليالي ميدان التحرير الباردة، رأيت الجنة، دفئا في القلوب، نورا في العقول، الناس نظيفة، مهذبة، راقية، محترمة، يتعايشون، على ما بينهم من خلاف، يتقاسمون الخبز والماء ومكان النوم. يشعرون، لأول مرة، أن البلد بلدهم. ومن أجل ذلك تحمّلوا الضرب والغاز والقنابل المسيلة للدموع وهجمات الجمال والخيول والبلطجية والإعلاميين والمشايخ والقساوسة. قاوموا صراخ أهلهم لهم في التليفونات أن يرجعوا. لم تخدعهم كلمات حسني مبارك العاطفية على الشاشة، وتوسّلاته لهم أن يتركوه ليموت في مصر. كانوا جميعا على "وعي" رجل واحد، يعلمون أنه يكذب، كما يعلمون أنه لا يموت.
جاء عم أحمد فؤاد نجم إلى الميدان. كانت ليلة، لا أستطيع أن أصف لك المشهد، حشود، فرحة. كأننا نستقبل سعد زغلول يوم عودته من المنفى. نجم يومها عجوز، نحيل، لا يتحمّل، أحاط به آلاف، أمطروه حبا، أوسعوه قبلاتٍ وأحضانا، كادوا يقتلونه. واحد من أصدقائنا الصحافيين، زاده الله بسطة في الجسم وفي "الغُشم"، ذراعه كأصابع الغيلان، كان يدفع عنه الناس بعنف، فلا يغضبون، يلطشهم فلا يبتعدون، يشتمهم فيزدادون. عاش نجم ليرى تراثه الشعري وقد تحوّل إلى ثورة. كان المتظاهرون يحيطون به بما أحاطهم من عمره وفنه وتجربته وأيام بؤسه وشقائه وسجنه وعذاباته. نجم أيضا طبيب قلب. وسط هذه الأجواء الرائعة، أمسك أحدُهم بالميكروفون، لا ليحتفي بنجم، بل ليتحدّث في الدين! كان واعظا شهيرا، من "بتوع الفضائيات". هو الآن مسجون، لن أخبرك باسمه. في هذه اللحظة بالذات، اختار الشيخ أن يذيع درسه، لأول مرة، في الميدان، فأين تذهب، يا مؤمن، إلى العلماء أم إلى الشعراء الذين يتبعهم الغاوون؟ لو كنا في جحيم الأيام العادية لاختار الناس شيخهم، لكننا كنا في الجنّة، ولذلك وقف الشيخ وحيدا.
عزيزي مجدي يعقوب: في الإسلام، الأفكار لا تصنعها النصوص، إنما قرّاؤها، النص مساحة رحبة للتأويل، ثمّة مخلصون، يقرأون لصالح الناس، وآخرون مزوّرون، يقرأون لمصالحهم، ونوازعهم، ورغبتهم في الشهرة والتصدّر، أدلة الإدانة هي نفسها أدلة البراءة. المهم كيف نقرأ، ولماذا، لله، كما يخبروننا؟ أم للتريند الذي أذلّ أنصاف الرجال؟ للحق والمعرفة، أم لـ "الشير" والمشاهدات وفلوس "يوتيوب"؟ لتوعية الناس وتنويرهم أم للاستثمار في غضبهم وإحباطهم وتخبّطهم وتيههم؟ المشرط هو المشرط، يا عزيزي، لكنه في يد قاتل يقتل، وفي يدك يحيي ولا يميت. لعلك سمعت بمن كفّروك، ووقّعوا، نيابةً عن رب العالمين، على استمارات دخولك إلى جهنم. هؤلاء هم الأعلى صوتا الآن، الوقت وقتهم، الظروف تخدمهم. ثمّة آخرون، أعقل، وأعلم، وأكثر وعيا وفهما، لكنهم لن يصلوا إليك، ذلك لأنهم ليسوا بالخفّة الكافية لتحملهم أجنحة الذيوع.
العزيز يعقوب: لستَ وحدَك من حكموا عليه بالكفر. الناجحون جميعا، من خارج دائرة الوعاظ، وطبقتهم، لعنوهم وكفروهم وسفّهوهم وسخروا منهم، ووبّخوا الناس لأنهم يحبونهم ويتهافتون عليهم، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، عادل إمام، محمود الخطيب، نجيب محفوظ، نصر أبو زيد، وغيرهم كثيرون. بل إنهم يفعلونها مع بعضهم بعضًا، مشايخ يكفّرون مشايخ، إسلاميون يكفّرون علمانيين، تراثيون يكفّرون حداثيين، سلطويون يكفّرون ثوريين، فيروس، وباء، كورونا، "كفارة" بالكهربا. لا تظن أن مسيحيتك هي السبب، لو أسلمتَ اليوم وواصلت نجاحك، تحت رايةٍ غير رايتهم، فلن يعدموا ألف وسيلةٍ لتكفيرك، وتفسيقك، وتبديعك، واتهامك، وتخويف الناس منك، "الخناقة" على القيمة، يا عزيزي، وفاقد القيمة لا يعطيها، ولن يسمح لأحدٍ بأن يفعل، فافعل، ولا تحزن، إن الله معنا.