عن التحرّش والمتحرّشين

عن التحرّش والمتحرّشين

06 يناير 2020

(Getty)

+ الخط -
يرى علماء نفس واجتماع أن السلوك البشري يرتبط بالبيئة المحيطة، وترتبط تصرّفات الأفراد، التزاماً وانحرافاً، بشكل طردي مع مدى الرقابة المفروضة أو الحرية الممنوحة لهم، وهو ما يفسر انفلات سلوكيات بعض الأفراد عند غياب الحساب والمساءلة.
قبل أيام، شهدت مصر تحرّش عشرات الشباب بفتاتين في مدينة المنصورة (250 كم شمالي القاهرة)، ليلة رأس السنة الميلادية، التي صارت، في الأعوام الأخيرة، مناسبة للاحتفال والتجمعات الشبابية. والحادثة ليست جديدة على مصر، فقد بدأت عمليات التحرّش الجماعي قبل عقدين تقريباً، تحديداً مع بداية الموجة الثانية لليبرالية الرأسمالية مطلع الألفية الثالثة. وكانت تلك الظاهرة مقصورةً على المناطق التجارية (المعروفة باسم وسط البلد) في قلب العاصمة القاهرة. وارتبطت زمنياً بأيام الأعياد والمناسبات العامة، حيث تخرج إلى الشوارع أعداد غفيرة من المواطنين، خصوصا الشباب، للتجول والاحتفال وارتياد دور السينما والمطاعم والمقاهي.
وما يتجنّب الإعلام المصري الإشارة إليه أن التحرّش كان دائماً أحد أشكال التجاوزات الأمنية بحق المعارضين السياسيين. وكان أولاً داخل المعتقلات، ثم انتقل إلى الشوارع لمواجهة التظاهرات والمسيرات التي تضم وجوها نسائية معارضة. ومن أشهر تلك الحالات التحرّشات والاعتداءات التي ووجهت بها مسيرات ووقفات حركتي كفاية و6 إبريل في عهد حسني مبارك. أي أن التحرّش بدأ في مصر رسمياً داخل المحابس والزنازين، وانتقل إلى المجال العام والفضاء العلني بالأيادي الأمنية نفسها.
أما ظاهرة التحرّش الشعبي، فبدايتها المعاصرة كانت من نصيب الراقصة الشهيرة دينا، حين رقصت أمام إحدى دور السينما في وسط القاهرة، عند العرض الأول لأحد أفلامها التجارية الهابطة. وأثار أداؤها الحركي المشاهدين، إذ كان أقرب إلى التحرّش البصري، فتحرّش بها فعلياً عشرات من الشباب، ثم انتقلوا إلى ملاحقة الفتيات في محيط دار السينما. ثم توالت حالات التحرّش والممارسات المنافية للآداب العامة، وصارت الظاهرة ملازمةً لكل تجمع جماهيري أو احتشاد في شوارع القاهرة.
مفهوم أن الأعياد والمناسبات الاجتماعية العامة تعد فرصة للتحلل من القيود والقواعد الأخلاقية والقانونية والآداب العامة الحاكمة لتصرّفات أفرادٍ كثيرين، غير أن ما يحدث في مصر ليس "تحللاً" أو تخلياً استثنائياً، وإنما هو "انحلال" أخلاقي وثقافي عام، فالتطور السلبي في السلوك الجمعي لفئاتٍ معينةٍ من المجتمع، خصوصاً الشباب ومحدودي الثقافة، يعكس انحداراً تدريجياً مستمراً في مستوى التحضّر والالتزام بالقيم الأخلاقية لدى المجتمع ككل. ويجسّد أيضاً التدهور الحاصل في مصادر التكوين الثقافي والأخلاقي، خصوصاً الإعلام والسينما والغناء، فقد شهدت هذه المصادر تشوّهات واختلالات كبيرة في الشكل والمحتوى، بدأت قبل نصف قرن، ضمن تجليات كارثة 1967، وكان بعض حواريي السلطة في مصر يبرّرون ذلك وقتئذ بالرغبة في إخراج الشعب من حالة الانكسار واليأس بسبب الهزيمة. بينما لا مبرّر واضحاً للسماح بالاستمرار في ذلك المنحدر الثقافي والحضاري والأخلاقي المتواصل منذ سنوات، ما أفضى إلى انتقال تلك الظاهرة من العاصمة إلى مدن أخرى.
وللمسؤولية عن ذلك الوضع المُزري وجهان، أولهما مباشر وبسيط، ويرتبط بغياب الإحساس الجمعي بالأمن، وافتقاد هيبة السلطة وسطوتها. كنتيجة مباشرة لعودة التركيز على الأمن السياسي دون الجنائي، وإدراك المصريين أن هم الأجهزة الأمنية وشغلها الشاغل هو تأمين السلطة وليس المجتمع. وهنا الخطورة في رمزية تجاهل الدولة واعتبار السلطة غائبة. أما الوجه الآخر الأسوأ فيتجاوز حدود السماح والتغاضي إلى المشاركة المباشرة في الإسفاف الفني والثقافي المتفشّي في وسائل الإعلام، فالسلطة في مصر تحتفي بممثلين ومغنين، من عرّابي الفن الهابط. وتتجه بنشاط إلى مصادرة كل منافذ الفن ومنابر الثقافة ووسائل الإعلام واحتكارها، لتكون أعمال هؤلاء من أجل السلطة، لا غيرها، وأرباحهم بين أيديها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.