"جوكر".. فيلم 2019 للأسف

"جوكر".. فيلم 2019 للأسف

03 يناير 2020
+ الخط -
لم يُشهِر أحدٌ أن "جوكر" هو فيلم العام 2019 الذي غادَرنا للتوّ، ولا قالت هذا جهةٌ مشهودةٌ في العالم، مختصةٌ بجديد السينما وقديمها. إنما الأمر أن صاحب هذه الكلمات يخلَع هنا من عنديّاته هذا الوصف على الفيلم، لأنه فيلمٌ تصل إيراداتُه إلى نحو مليار دولار في أربعة شهور، وشاهده مئات الملايين، وتتابعت عنه مقالاتٌ بلا عدد، وتوزّع الناس بشأنه بين من تطرّف في الحماس له والإعجاب به ومن تطرّف في انتقادِه ورآه متكلّفا وضعيفا، وثمّة البيْن بيْن ممن صنّفوه ليس سيئاً وليس ممتازاً. وأيا كان الموقف منه، فإنه يظل عملا سينمائيا مهمّا، لا يتركك في حالِك عندما تنتهي من مشاهدته، ستحيطُ بك زوبعةٌ من أسئلةٍ يثيرها. وإذا لم يعجبك ألبتّة، فإنك، على الأرجح، ستقرّ بإتقان بطله، يواكين فينيكس، دورَه الصعب. أمّا وأن العنوان أعلاه يجد في ذيوع "جوكر" المهول في العالم أمرا مُؤسِفا، فذلك يعود إلى أمريْن: أنه فيلمٌ ليس تحفةً سينمائيةً استثنائيةً، رفيعة القيمة فنيا، حتى يستحق كل هذا الإقبال من جمهورٍ شاسع ومن نخبٍ كثيرةٍ في كل بلد. وأنه فيلمٌ عن شخصٍ كئيب، مضطربٍ نفسيا، في مدينةٍ وسخة، ومشاهد القتل الفظّة فيه غير قليلة، ليس فيلما يحتفي بالبهجة بالحياة، ولا يشيعُ فيك تفاؤلا أو شعورا بطمأنينةٍ ما. كأنه، إذن، من معالم سنةٍ كئيبة، مرّت ثقيلة الظل. ودّعناها، نحن البشر في غير أرض، بغير ودّ معها. وبذلك يصير الأسف المؤشّر إليه فوق، في العنوان، متعلقّا بسنةٍ مُضجرة، كان من تفاصيلها فيلمٌ مزعج، مشغولٌ بالتعاسة.
"جوكر" فيلمٌ مقلقٌ، يحيّرك، يستفزّك، كيف لك أن تتعاطف مع شخصٍ غير سويّ نفسيا، قاتل، فيه مقادير من الشر. ستجيب نفسَك إنه ما صار هكذا إلا بسبب الاضطهاد القاسي الذي عانى منه، السخريةِ الشرسةِ من شخصِه، تهميشِه واستضعافه. الكل يضحك عليه، ومن الميسور إهانتُه وضربُه. وهو مجرّد مهرّج، عملُه الذي يتقاضى عنه أجرا أن يكون مهرّجا، بعد أن فشل في أن يكون ممثلا كوميديا. كأنه لقيط، أو يتيم، لا يُعرف له أب، وعندما يهتدي إلى أبيه، لا يحسم أنه اهتدى إلى هذا الأب حقا. وأمّه الفقيرة، الخادمة الضعيفة، يقتلها وهي على سرير في مستشفى، لأنه يعرف أنها تبنّته، وخدعته هي الأخرى. يقتل كثيرين ظلموه، استطابوا الاستخفافَ به. لم يجد سوى المسدّس، ويديه التي يخنِق بها، يستردّ بهم كينونتَه المبتذلة. يرتكب جريمة قتلٍ في أثناء مقابلةٍ تلفزيونيةٍ معه. كل هذه الوقائع في مدينةٍ يمتنع فيها عمّال النظافة عن العمل احتجاجا. خطيرٌ أن هذا الشخص الذي لا يرى نفسه شرّيرا (كما أي شرّير؟) يصبح مُلهِما لساخطين في المدينة من غياب العدالة والمساواة وفداحة ما يقترفه المستغلّون والأثرياء المتحكّمون النافذون. يثورون، يرتدون أقنعة المهرّج، ويصبغون وجهوهم كما يفعل بوجهه.
قال المخرج، تود فيليبس، إنه لم تكن هناك قواعد تم اتّباعها في إنجاز الفيلم الذي صنعه، وهو مخرجٌ غير معروفٍ بأفلامٍ جيدة له، فعل ما أراد أن يفعلَه فقط، على ما قال. وعليك، أنت المشاهد، أن تتلقى ما أراد فعله، بعد دعايةٍ كبيرةٍ، ثقيلة، لا تُخبرك، مثلا، بأنه فيلمٌ أفاد من أفلامٍ سابقة، لمارتين سكورسيزي وغيره، ولا أنه عن انحراف الإنسان نفسيا، ولا أن بعض الموسيقى التصويرية غير معبّرة ولا مقنعة. ليست الدعاية هذه التي لم تقل شيئا من هذا وحدها التي روّجت "جوكر"، وجعلت الملايين يتقاطرون إلى قاعات السينما لمشاهدته، وإنما أيضا الشعور العريض الذي شاع، بعد أولى ملايين الدولارات التي تحقّقت إيراداتٍ له، بأن مشاهدته أمرٌ بالغ الضرورة، وإنْ هو للكبار فقط، وهذه تيسّر له ميزةً جاذبةً مُضافة، وهو الفيلم الذي يقع على موطنٍ طيبٍ في نفوس الناس، فهو عن غضب المهمّشين ضد السلطة، غضب المحرومين.
إلى تلك الخطورة المتضمّنة في الفكرة غير الخافية في "جوكر"، بدا على شيءٍ من الخطورة أيضا أن يتمثّل ثوارٌ ناقمون، يتطلّعون إلى التخلّص من الفساد والسلطات الخربة، في العراق ولبنان، شخصية الجوكر في هذا الفيلم العاصف، شخصية المريض المختلّ نفسيا. تُرى، هل كان كافيا أنه ضحيةٌ، ليستحسنوا هيئته في شوارع الغضب والتظاهر؟.. مرةً أخرى وأخيرة، من سوء مزاج العالم في السنة التي انقضت أن "جوكر" كان من عناوينها.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.