تفكيك الأزمة الليبية

تفكيك الأزمة الليبية

17 يناير 2020
+ الخط -
لم تتبق دولة فاعلة في مشهد السياسة الدولية إلا وتدخلت في ليبيا، أكان دعماً لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، برئاسة فائز السراج، أم انحيازاً للواء خليفة حفتر، بغض النظر عن شكل هذا التدخل ومستواه، عسكرياً أو سياسياً، مباشراً أو عبر وكلاء. وباستطاعة كل دولة أن تستفيض في تقديم ذرائع لتبرير انخراطها، من فرنسا إلى إيطاليا وألمانيا، مروراً بمصر والإمارات، وصولاً إلى روسيا وأخيراً تركيا. بعضها تُحفّزها حساباتٌ اقتصادية، وبعضها الآخر تُحرّكها اعتبارات سياسية ومخاوف أمنية، لكنها جميعها تتفق على أنها تريد حماية مصالحها، وهذه غالباً متعارضة. 
وعلى عكس اللغة الحذرة في الإفصاح عن الأهداف الحقيقية، وحجم التدخل لمعظم الدول التي تتحرّك في ليبيا، كان الموقف التركي، وبغض النظر عن صوابيته، في الفترة الأخيرة، الأكثر وضوحاً. أما المقاربة الروسية، وعلى نحوٍ غير معتاد، فكانت واقعية. بالنسبة إلى أنقرة التي تخلّت، منذ سنوات، عن سياسية صفر مشاكل دبلوماسية، وترى أن من حقّها أن تتوسع دفاعاً عن مصالحها أينما تطلب ذلك، وخصوصاً في منطقة المتوسط، على غرار ما يفعل خصومها، فإن سيطرة خليفة حفتر على العاصمة طرابلس أمرٌ غير مسموح به، حتى لو كلّف ذلك تدخلاً عسكرياً مباشراً من جنودٍ أتراك، أو بالاستعانة بمقاتلين سوريين، أو الاكتفاء بدعم لوجستي لحكومة الوفاق الوطني، أو تسوية سياسية تفرمل اندفاعة حفتر، على غرار محاولة موسكو وأنقرة دفع طرفي الصراع المحليين إلى التوقيع على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، قبل أن يطيحه حفتر.
ولعل الأكثر لفتاً للانتباه الموقف الروسي عقب تراجع حفتر عن توقيع الاتفاق أخيراً. لغة التعالي الروسية والإيحاء الدائم بأن لها القدرة على فرض ما ترغب به، وتجاهل من تريد تجاهله، تلاشت هذه المرّة. حرص وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على تأكيد أن محادثات موسكو لم يكن ممكناً لها حل كل المشكلات ووضع فشلها على غرار اجتماعاتٍ سابقةٍ رعتها دول فاعلة في ليبيا. وذهب لافروف إلى أبعد من ذلك بحديثه عن تمهيد محادثات موسكو لمؤتمر برلين. سبب هذه التصريحات الإدراك الروسي أن مشكلة الصراع في ليبيا أنه مركّب، لكل طرف دولي فاعل فيه رؤيته للحل السياسي وتقاسم العوائد الاقتصادية، وأنه مهما حاولت موسكو لن تكون قادرةً بمفردها على تفكيكه وفرض رؤيتها للحل، كما حصل في سورية على سبيل المثال.
وإذا كانت القناعة الروسية، كما لدى دول أخرى عديدة، بهذا الواقع المعقد، ستثمر ضغطاً مشتركاً لفرض هدنةٍ طويلة الأمد في ليبيا في المرحلة المقبلة، كما يأمل بعضهم، فإن ذلك لن يكون سوى خطوة على طريق الحل السياسي الشامل، لأن التسوية المستدامة تفرض تحدّياتٍ عدة لن يكون التعاطي معها يسيراً.
ولعل أخطر ما في العامل المحلي للأزمة الليبية أن داخل كل معسكر تباينات لا تنتهي، وانعداما لسلطة القرار الموحد، خصوصاً في ظل انتشار ظاهرة المليشيات المسلحة التي ترى أن مشاركتها في الثورة تمنحها حق التدخل، متى ما أرادت وكيفما ارتأت. وإذا كانت حكومة الوفاق الوطني معترفا بها دولياً، ويلتقي رئيسها فائز السراج بالمسؤولين الدوليين، ويتحدث باسم الليبيين، إلا أنها، في الحقيقة، تدرك جيداً أنها عسكرياً لا تمون إلا على نفسها، وتتسع الفجوة بينها وبين المليشيات المتحكّمة في طرابلس ومحيطها، كلما كان الخصم الآخر، أي خليفة حفتر، بعيداً، وتتعالى عنها مرحلياً كلما اقترب من العاصمة. وعلى المقلب الآخر، لا يبدو الوضع أفضل حالاً داخل معسكر حفتر، والذي يواجه نفوراً قبلياً وشعبياً، والمهدّد بهزيمة مشروعه. ولضمان صمود أي حل سياسي مرتقب، فإن معالجة ملف المليشيات ستكون الأولوية والمصلحة المشتركة الوحيدة على الأرجح، لجميع الأطراف المتصارعة على ليبيا.
جمانة فرحات
جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.
جمانة فرحات