توطين الأمن في الخليج

توطين الأمن في الخليج

04 سبتمبر 2019
+ الخط -
مع تصاعد التوتر في منطقة الخليج، نتيجة اعتراض إيران ناقلات نفط، بعدما حظرت واشنطن عليها تصدير نفطها، وردّت الأخيرة بمحاولة إنشاء تحالف دولي لحماية حرية الملاحة في المنطقة، عادت إيران إلى طرح مبادرتها الرامية إلى حصر أمن منطقة الخليج بيد أبنائها ودولها، ورفض أي وجود عسكري أجنبي فيها، وهذا طرح إيجابي، يجب التعاطي معه والبناء عليه، لولا أنه لا يوجد في الواقع ما يؤيده. فعلى امتداد القرن الماضي، مثّل الوجود الأجنبي في منطقة الخليج الضمانة الرئيسة، ومصدر الحماية، للدول الصغيرة خصوصا، في نظام إقليمي تتنازع السيطرة فيه ثلاث قوى كبيرة، لديها جميعها طموحات توسّع وهيمنة (إيران، والعراق، والسعودية). ويمكن أن يسوق المرء أمثلة عديدة على تدخل قوى خارجية لمنع اعتداء دول في المنطقة على دول، وقبل ذلك، قبائل على قبائل. ففي عام 1961، وما أن أنهت بريطانيا حمايتها للكويت لتغدو بعدها دولة مستقلة، حتى بادر العراق إلى محاولة ضمها. وعندما أعربت بريطانيا عن رغبتها الانسحاب نهائيا من الخليج عام 1968، سارعت إمارات ما كان يسمّى في حينه الساحل المتصالح (الإمارات السبع وقطر والبحرين) إلى إنشاء اتحاد تساعيّ، لحماية نفسها من طموحات إيران والسعودية في أراضيها. وكانت كل من الرياض وطهران تضغط أصلا للتعجيل بخروج بريطانيا من المنطقة، حتى تبتلع ما تستطيع من أراضي الدول المجاورة. وبالفعل، ما أن سحبت بريطانيا قواتها عام 1971، حتى بادرت إيران إلى احتلال جزر الإمارات الثلاث (طنب الكبرى، وطنب الصغرى وأبو موسى) وكادت تحتل البحرين. وكانت إيران قضت قبل ذلك على إمارة المحمّرة، على الساحل الشمالي للخليج، وأنهت حكم شيوخها من بني كعب. 
ونتيجة خروج بريطانيا أيضا، ونشوء فراغ قوة، احتلت السعودية خور العديد، وهي المنطقة التي كانت تصل بين قطر ودولة الإمارات، وقد رفضت السعودية الاعتراف باستقلال دولة الإمارات حتى وافقت الأخيرة على اتفاقية جدة عام 1974، وأقرت فيها بالسيادة السعودية على المنطقة التي تحتوي حقل الشيبة النفطي، أكبر حقول المنطقة، بإنتاج يصل إلى مليون برميل يوميا. مع ذلك، ظلت الإمارات تعبر عن رفضها الإجراء السعودي، باحتفاظها بوجود المنطقة ضمن حدودها على الخريطة، وقد تسبب ذلك بأزمة دبلوماسية بين البلدين عام 2009، عندما منعت السعودية المواطنين الإماراتيين من دخول أراضيها باستخدام البطاقة الشخصية، نتيجة وجود خور العديد على خريطة الإمارات المطبوعة على خلفية البطاقة.
احتل العراق الكويت وضمها في عام 1990، اعتقادا منه أن نهاية الحرب الباردة أضعفت الالتزام الأميركي بأمن المنطقة. قبل ذلك، كانت إيران قد أعلنت، في عام 1979، أنها بصدد تصدير ثورتها إلى دول الجوار، ودعت إلى إطاحة أنظمتها، ثم أحيت هذا الطموح بعد فشلها أول مرة، مستفيدة من انهيار العراق عام 2003، حيث جرّدت طهران كل إمكاناتها للهيمنة على المنطقة. وعندما كادت تفشل ثانية، استعانت هي نفسها بقوة خارجية (روسيا)، إذ زار وفد يضم قاسم سليماني وعلي أكبر ولايتي وأمير عبد اللهيان، في شهر يوليو/ تموز 2015، موسكو وحملوا رسالة من المرشد، يدعو فيها الرئيس بوتين إلى التدخل على نحو عاجل في سورية، قبل أن تظفر "قوى الاستكبار" بها. منذ ذلك الوقت، يفاخر مسؤولون إيرانيون بادعاء السيطرة على قرار أربع عواصم عربية. على المقلب الآخر، كادت قطر تتعرّض في العام 2017 لغزو عسكري مباشر من دول الحصار، لولا تدخل واشنطن ممثلة بوزيري خارجيتها والدفاع حينها ريكس تيلرسون وجيمس ماتيس اللذين حذّرا السعوديين من مغبة الإقدام على هذا العمل.
يشعر المرء بالأسف، وهو يسوق هذه الأمثلة، ليصل إلى إن الإيراني على حق في أن أمن المنطقة يجب أن يكون شأن أبنائها، وأن القوات الأجنبية يجب أن تخرج منها، ولكن هذا لا يكون قبل أن تنتقل السياسة في منطقتنا من مربع الهيمنة والتوحش إلى مربع الحضارة والسلم والتعايش، ومن مربع الثارات التاريخية إلى مربع الحداثة واحترام السيادة والمسؤولية، ومن مربع الأمن الفردي إلى مربع الأمن الجماعي، وقبل أن يتعلم الجيران كيف يأمن بعضهم بعضا من دون الحاجة إلى أجنبي يفصل بينهم.