عن "عنصرية" ترودو

عن "عنصرية" ترودو

21 سبتمبر 2019
+ الخط -
قبل أيام، اعتذر رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، عن صورة له في عام 2001، يظهر فيها وجهه ويداه وقد طليت كلها باللون الأسود في مدرسة بوينت غري في مدينة فانكوفر. وقبل الانتخابات التشريعية الكندية المقرّرة في 21 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، تطرق ترودو إلى الصورة في مؤتمر صحافي، قائلاً إنه "ارتدى قناع علاء الدين في حفلةٍ مدرسيةٍ كانت تحاكي أجواء ألف ليلة وليلة". وأضاف: "أتحمل مسؤولية ما فعلت. ما كان يجب أن أفعل ما فعلت". وتابع: "لم أكن أعتقد وقتها أن مثل هذا التصرف عنصري. ولكنني أعترف الآن بأنه كان عنصرياً، وأنا آسف جداً على ما فعلت". وعندما سئل عما إذا كان فعل ذلك في مناسباتٍ أخرى، رد ترودو بأنه طلى وجهه مرة في برنامج غنائي. مع العلم أن ممارسة طلاء الوجه باللون الأسود تعود إلى قرون سالفة، عندما كان الممثل ذو البشرة البيضاء يطلي وجهه باللون الأسود سخرية من ذوي البشرة السوداء في عنصريةٍ واضحة. 
يفسح هذا الأمر المجال أمام طرح إشكاليةٍ مرتبطةٍ بالتطوّر الفكري لكل فردٍ وجماعة، خصوصاً في السياقات المتعلقة بكل أشكال العنصرية، فضلاً عن إشكاليةٍ مرتبطةٍ بمدى بقاء الحاضر والمستقبل أسيريْن، أو حتى عبدين، للحظة ما عبرت في الماضي. في حالة ترودو، ما حصل يُمكن إدراجه في أطر عدة، منها أن ترودو لم يكن منتبهاً لفداحة فعله، واعتبر الأمر "طبيعياً"، ومنها أنه لم يكن الشخص الذي هو عليه اليوم في أفكاره التقدمية بسبب مراكمته تجارب وأفكاراً، ومنها أنه مجرّد انتهازي، تسلّق موجة الأفكار الإنسانية، لكسب شعبية ما، وبالتالي رئاسة الحكومة.
هذا في حالة ترودو، أما في حالة مطلق فرد، فإن من غير الممكن حصول التطوّر الفكري سوى بناء على ما توفره البيئات المتضادة من أفكار، خصوصاً في عالمنا اليوم، المليء بالفوضى المتطرّفة. وعليه، لا يجب محاسبة من تمكّن من تطوير تفكيره، بسبب خطأ ما ارتكبه حين كان مقتنعاً بأفكار أخرى تمييزية ناجمة عن بيئة محدّدة منعزلة وموجّهة. أحياناً تمنعه مثل هذه المحاسبة من الانطلاق أكثر نحو مزيد من التطوّر، في حال كان خائفاً من "المجهول" الذي ينتظره. فلنفترض في حالة ترودو (تحديداً في حالة غياب سوء النية)، أنه كان جاهلاً في فعله عام 2001، لكنه عاد وتطوّر، من دون الإتيان على ذكر هذه الحادثة أو أحداث أخرى، فلمَ لا نقتنع نحن بتطوّره؟ لا يعني هذا أن الموضوع متعلقٌ بترودو فحسب، بل بكل شخصٍ منا. هل تدركون أن أكثرية المنتمين إلى أفكار محدّدة وأحزاب محدّدة هم من المولودين لعائلات محدّدة، يميناً ويساراً؟ هل تدركون أن أمثال هؤلاء لا يمكنهم التطوّر على الرغم من ادّعائهم عكس ذلك؟ لأن "الادّعاء" بحدّ ذاته هو مجرّد حدّ يرسمه فائض الأنانية لدى المدّعي، فيجمّد حراكه العقلي والفكري، ويقتل فيه روح التطوّر. الجماد قاتل.
دائماً ما تأتي الأقلية التغييرية من بيئة منغلقة، لا لسببٍ سوى لأنها تمكّنت من مقارنة الأفكار المتصارعة، واستنبطت حلولاً تراها أكثر تناسباً من التطرّف الحادّ الذي لم يجرّ عملياً سوى الحروب. أصلاً، لا يمكن لأي إنسان أن يولد في حالة مثالية. حين يولد مثل هذا الانسان، على بعضهم إجراء الاتصالات بمختلف المكتبات ودور النشر ومنعها من نشر الأفكار والكتب. لا يمكن أيضاً لمن يعتقد بأن له الحقّ بتوجيه الانتقادات لشخصٍ آخر على فكرةٍ ما قالها أو اعتنقها منذ 20 و30 عاماً، أن يظنّ أنه كان في منأىً عن مثل هذه الأفكار في الزمان عينه أو لا. في مثل هذه الحالات، يبدو الناقد أقرب إلى الفتى الذي يكبرنا بضع سنوات، ومرّ بما مررنا به، لكنه يظنّ نفسه أكثر حكمة منّا. في ذلك أبوية وبطريركية وسلطوية ما.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".