ماذا حدث لتفاهم "كوينسي"؟

ماذا حدث لتفاهم "كوينسي"؟

18 سبتمبر 2019

روزفلت والملك عبد العزيز وآخرون على السفينة كوينسي (14/2/1945/Getty)

+ الخط -
في طريق عودته من مؤتمر يالطا، في شبه جزيرة القرم، حيث حضر قمة الحلفاء المنتصرين في الحرب مع رئيس وزراء بريطانيا تشرشل ورئيس الاتحاد السوفياتي ستالين، التقى الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، في فبراير/ شباط 1945 بملك السعودية، عبد العزيز آل سعود، على ظهر السفينة الحربية كوينسي في البحيرات المرّة في مصر، حيث أبرما اتفاقهما الذي تعهدت فيه واشنطن بحماية السعودية، في مقابل توفير إمدادات نفط مستمرة ورخيصة للاقتصاد العالمي، ما أصبح يعرف باتفاق "النفط مقابل الأمن". منذ ذلك الحين، تعرض هذا الاتفاق لهزات عديدة، مثل الحظر النفطي العربي عام 1973، وصدمة سقوط شاه إيران، عندما برهنت واشنطن عن عجزها في الدفاع عن حلفائها، وصولا إلى هجمات "11 سبتمبر" في 2001، وطلب السعودية مغادرة القوات الأميركية أراضيها، لكن اتفاق "كوينسي" صمد، إذ ظلت واشنطن تعد أمن الخليج أولوية قصوى، واستمرار تدفق إمدادات النفط منه مصلحة استراتيجية عليا. 
لم تغير واشنطن موقفها بخصوص التزامها بأمن الخليج وأمن إمدادات الطاقة، لكن حساسيتها تجاه الأمر تغيرت، لسببين رئيسين، أولهما أن الولايات المتحدة لم تعد، كما أوضح الرئيس ترامب، تعتمد على نفط الخليج الذي يذهب معظمه الى آسيا (70%) وأوروبا (30%). وبهذا لم يعد حافزها الرئيس في حمايته قائما. وبفضل التطور الهائل في تكنولوجيا التنقيب والاستخراج، باتت أميركا اليوم أكبر منتج للنفط في العالم (أكثر من 12 مليون برميل يوميا، تصدر ثلاثة ملايين برميل منها)، وإنْ من غير المرجّح أن تصل إلى الاكتفاء الذاتي في أي وقت قريب (يبلغ استهلاكها اليومي 20 مليون برميل). العامل الثاني ترامب نفسه، فليس لدى هذا الرئيس فهم أو إدراك للاعتبارات الاستراتيجية في السياسة الأميركية خارج الحسابات التجارية والمالية. وفي الوقت الراهن، يبدو ترامب مستعدا لفعل أي شيء لضمان إعادة انتخابه، بحيث إنه ظل يأمل بالتقاط صورة مع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى عندما كان وزير خارجيته، مايك بومبيو، يتحدّث عن مؤشراتٍ عن احتمال ضلوع إيران في الهجمات التي تعرّضت لها منشآتٌ لـ "أرامكو" في المملكة، وأدت إلى إخراج نصف إنتاج السعودية من السوق.
فوق ذلك، بات واضحا أن سياسات الرئيس ترامب، وإن بدا أسلوبه أكثر شعبوية وأقل اتزانا، لا تختلف كثيرا عن سياسات سلفه، فالرجل يعبر عن ميول عزلة وانكفاء باتت تهيمن على التيارات السياسية الرئيسة في الولايات المتحدة، وتعكس قلة اهتمام وعدم رغبة في التدخل خارجيا، ما لم تمس المصالح الأميركية مباشرة. وعلى الرغم من معارضة وزارة الدفاع، وأجزاء أخرى من "الإستبلشمنت" يدفع ترامب إلى الانسحاب من الشرق الأوسط، وأفغانستان، وشبه الجزيرة الكورية، وحتى من أوروبا، وهو يحتاج لذلك إلى عقد "صفقات" مع إيران، وحركة طالبان، وكوريا الشمالية، وروسيا.
تجاهلت السعودية هذه التغيرات العميقة التي طرأت على السياسة الأميركية، والأسوأ أنها راهنت على شخص ترامب، في استعادة ألق التحالف الذي أرسته "كوينسي". تحتاج السعودية ليس فقط إلى التأقلم مع ظروف جديدة لم تعد تملك فيها ما يغري واشنطن بدخول مواجهةٍ دفاعا عنها، بل أيضا إلى إعادة النظر في ثلاثة اعتبارات جوهرية، كشفتها الهجمات أخيرا: أولها جدوى التحالف العسكري مع واشنطن، والإنفاق الدفاعي الهائل، في ضوء التطور الكبير الذي طرأ على وسائل الحرب اللا- متماثلة. لقد بلغ الإنفاق الدفاعي السعودي في العام 2018 نحو 79 مليار دولار، ولم ينزل عن 70 مليار دولار في السنوات الخمس الأخيرة، ليضع السعودية في المرتبة الثالثة عالميا بعد الولايات المتحدة والصين، ومع ذلك لا يبدو أمن السعودية في وضع أفضل. ثانيهما أن السياسات السعودية في الإقليم كانت المعين الأكبر لإيران على نفسها. وبسبب ذلك باتت السعودية محاصرة اليوم بين الحوثيين في الجنوب (اليمن) ومليشيات الحشد الشعبي في الشمال (العراق) لا تدري من أين يأتيها الضرب. ثالثا أن التقارب مع إسرائيل يضعف السعودية، ولا يقويها، فإيران (وحلفاؤها) تكاد ترسي معادلة جديدة في المنطقة، قوامها الرد في السعودية، على الضربات التي تتلقاها من إسرائيل التي لا تستطيع الرد عليها. إذا استمرت السعودية في تجاهل هذه المتغيرات، فهي إنما تتصرّف كالنعامة لحظة الخطر.