كاميرا خفية

كاميرا خفية

04 اغسطس 2019
+ الخط -
صار أمرًا عاديًّا أن يُسمع صوت قهقهة فخامة الرئيس يملأ القصر وردهاته، ما دامت برامج "الكاميرا الخفية" تدور على شاشات التلفاز ويوتيوب، فقد أصبح الرئيس متابعًا شغوفًا بهذه البرامج منذ أول حلقة شاهدها.
آنذاك، حدث تحوّل "انقلابي" في حياة الرئيس، وفي تفكيره أيضًا، وقد لاحظ هذا التحوّل، بداية، أفراد الحاشية الذين شعروا بتبدّل جذري في نمط برامج الرئيس اليومية، بعد أن غدت برامج الكاميرا الخفية في مقدمة أولوياته؛ إذ يبدأ نهارَه بالبحث عن كل جديدٍ فيها، ثم يعرّج ليملأ الفراغات "الهامشية" في برنامجه، كاستراتيجيات التخطيط، والبحث عن مصادر جديدة لسداد المديونيات، وابتكار فرص عمل جديدة لجموع العاطلين، واستحداث مدارس ومراكز طبّية. وفي الغالب، كان الرئيس يسأم سريعًا من هذه "الفراغات"، فيقطع الاجتماعات في منتصفها، ويعود سريعًا إلى جناحه، ليتابع برنامجًا جديدًا للكاميرا الخفية، بعد أن يلعن شؤون التخطيط والإدارة برمّتها التي قطعت عليه حبل "كاميرته".
عمومًا، كان يمكن لهذه "الهواية" الجديدة أن تظل محصورةً في نطاق حياة الزعيم واهتماماته الشخصية، لولا أنها غدت عائقًا كبيرًا في تصريف الشؤون العامة للبلد، فقد توقفت سائر الأنشطة ذات التماسّ المباشر بحياة المواطنين؛ لأن الرئيس بات مشغولًا بمتابعة "الكاميرا الخفية" على حساب الشؤون الأخرى كافة، ما أوجد نوعًا من التململ الآخذ بالاستفحال بين عموم طبقات الشعب. وعندها اعتزم كبار مستشاري الرئيس التدخل لتنبيهه على واقع الحال، الذي آل إليه البلد، من جرّاء الانشغال الدائم للرئيس، وقهقهاته التي لا تنتهي.
انتظر المستشارون حتى انتهى البرنامج، ثم دخلوا إلى جناح الرئيس ليكاشفوه بواقع الحال، غير أنهم فوجئوا بالرئيس يقهقه مجدّدًا، عندما بسطوا أمامه ما يعانيه البلد، ثم قال من دون أن يقطع قهقهاته:
- أيها الأغبياء، ألا تعلمون أن كل ما يحدث في البلد هو مجرد "برنامج كاميرا خفية"، بما في ذلك برامج "صندوق النقد الدولي"؟
تفاقمت قهقهات الرئيس عند ذكر عبارة "برامج صندوق النقد الدولي"، ثم تابع:
- ما يحدث، أيها البلهاء، أن أزماتنا كلها مفتعلة، والمطلوب أن نصدّق ذلك. ولكن ما إن نصل إلى أقصى حدود الاحتقان، حتى تظهر الكاميرا الخفية إلى العلن، وسيخرج أحدهم من خلف الستار، ليقول إن ما حدث هو واحدةٌ من حلقات "الكاميرا الخفية"، وعندها سينتهي كل شيء، ثم تعود الأنشطة التجارية والحركة الاقتصادية إلى مجاريها.. كل ما في الأمر أن هناك من يتعمّد الإيحاء لنا بأن البلد على كفّ عفريت، وهذا مقصود لزيادة عناصر الإثارة.
سحب الرئيس نفسًا عميقًا قبل أن يستطرد:
- أبعد من ذلك، هل تعلمون أن قضايانا القومية الخطرة ليست إلا برامج كاميرا خفية معدة مسبقًا؟ هل تصدّقون أن فلسطين قد احتلّت فعلًا؟ أو أن العالم العربي قد جرى تقسيمه؟ ستكونون أغبياء إن فعلتم. حتّى الحروب الأهلية التي تشاهدونها الآن هي مجرد خدعة كاميرا خفية. صحيح أن وقت برامجها طال كثيرًا، ولكن ذلك مبرّر، لأن البرامج معدة لشعوب، وليس لفئة مشاهدين محدودة، ولكن اللعبة ستنتهي في الوقت المناسب، فلا تقاطعوني ثانية، والأفضل أن تشاركوني القهقهة.
غنيٌّ عن القول إن المستشارين شاركوا فخامة الرئيس قهقهاته، إن لم يكن من باب التصديق على آرائه وحكمته، فمن باب الخشية على حياتهم. أما فخامته، فلا ضرورة للقول إنه واصل القهقهة، ليس فقط بعد خروج مستشاريه، بل أيضًا عندما حدث انقلابٌ عليه، فهو ما إن شاهد الجنود يحاصرونه بأسلحتهم، حتى دخل في نوبة قهقهة مهولة، ظنًّا منه أن "الكاميرا الخفية" قد وصلت إلى قصره، لتخضعه لبرنامج فكاهيّ، فآثر أن ينخرط في اللعبة حتى آخرها، بما في ذلك الوقوف على حبل المشنقة.
ولكن أغرب ما تتداوله الروايات بعد ذلك، وبعد تحول الكاميرا من "خفيةٍ" إلى "علنية"، هو ما يردّده بعض من يمرون بالمقبرة، إذ يؤكّدون أن ثمة قهقهاتٍ تنبعث من قبر الرئيس.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.