هذا الفيلم اليمني.. الناجح

هذا الفيلم اليمني.. الناجح

30 اغسطس 2019
+ الخط -
أن تشاهد فيلما روائيّا يمنيّا، مخرجُه وطواقمُه ومصوّروه كلهم يمنيون، فضاؤه كله في اليمن، فذلك من أسباب غبطةٍ مؤكّدة. وعندما يكون هذا العمل السينمائي عن واقعة حبٍّ يتغلب طرفاها على معيقاتٍ كثيرةٍ أمام زواجهما وحفل زفافهما، فإن غبطتك تلك ستتضاعف. وعندما تعرف أن أهل عدن شاهدوا الفيلم في عروضٍ أزيد من أربعة شهور، فلا شكّ أن سرورا وفيرا سيغشاك. أما إذا عُرض هذا الفيلم، اليمني جدّا، في عمّان، وتقاطر إليه حضورٌ مفاجئ كبير، من متذوقين للسينما دافعُهم الابتهاج بتجربة شبابٍ يمنيين محبّين للفن، فإن فائضا من ذلك السرور فيك سيستبدّ بك. .. هذا بالضبط ما احتشد في خواطري، وأنا أجلس في فضاءٍ طلقٍ في مقر الهيئة الملكية الأردنية للأفلام في عمّان، وسط حشدٍ كثير، من شباب وشابّات تزاحموا، واحتل بعضُهم الدرجات، ومنهم من احتمل الجلوس على الأرض. وبعد كلمةٍ ترحيبيةٍ لمديرة الإعلام في الهيئة، ندى دوماني، بحضور الفيلم الذي عُرض ضمن الدورة التاسعة لمهرجان الفيلم العربي الذي تنظّمه الهيئة، أطلّ المخرج عمرو جمال (36 عاما)، ليقول إنه كان ينوي الدخول في أثناء العتمة مع عرض فيلمه، دفعا لحرجٍ كان سيشعر به، من حضورٍ قليلٍ جدا كان يتوقعه، ثم عدل عن ذلك، لمّا أُبلغ أن الحضور فاق تصوّر الجميع. وبدا المخرج، في إشارته هذه، صاحب نكتةٍ ومزاجٍ ساخر، الأمر الذي كان من أهم أسباب نجاح فيلمه "عشرة أيام قبل الزّفّة" (2018)، النجاح الجماهيري الواسع في عدن، والذي احتفى بهذا الإنتاج اليمني الأول من نوعه منذ عقود، وكذا في الاستقبال الطيب الذي حظي به هذا الفيلم، الجميل والمتقن والذكي، في مهرجاناتٍ عربيةٍ وعالمية (بيروت، القاهرة، أمستردام، مراكش، ساو باولو..). 
لا ينهض الفيلم على السخرية والكوميديا والهزل. وإنما هو معنيٌّ بانتصار إرادة الفرح على الخراب وصنّاعه. يفتتح مشاهِدَه الأولى مرفقةً بأغنية الفنان اليمني أحمد قاسم ".. أنا والعذاب دايما حبايب"، غير أنه ينتهي بالزّفّة في شارعٍ في عدن، والغناء الجماعي الراقص "كله حلا يستأهل.. حلا حلا يستأهل". وفي 122 دقيقة، مدّة هذا الفيلم الذي أبدع فيه 45 ممثلا يمنيا، بينهم 11 امرأة (بطولة خالد حمدان وسالي حمادة)، تحتشد مفارقاتٌ ووقائعُ تتتابع بإيقاعٍ حاذق، تعبُر إلى الأسى اليمني. ليس ثمّة الحربُ التي نعرف منذ العام 2015، وإنما شيءٌ من تداعياتها ومخلّفاتها، لا على العمران والفضاء العام فحسب، بل قبل ذلك وبعده على الإنسان في عدن وعيشِه وأحوالِه. ولعل من لطائف "عشرة أيام قبل الزّفّة" أنه يؤشّر إلى هذه الحرب، في بعض حواراتٍ فيه، موصولةً بحروبٍ سبقتها في البلاد.
بساطة القصة، بتقليديّتها المعهودة عن شابّين يغالبان ظروف الزواج ومصاريفه ومتطلبات حفل الزفاف، وتقلقهما ظروف العيش، ليست هي التي ستبقى في بالك، لمّا تغادر حواسُّك وعيناك طوافَك في عدن وأحيائها وأسواقها وحواريها، على الشاشة، وإنما الأداء العالي للممثلين اليمنيين، الشباب والشابات الموهوبين حقا، في اجتماعهم على إنجاز فيلمٍ لا ملل فيه أبدا، تنوّعت أدوارهم، الظريف والخشن، المحتال والطيب، الدافئ والخبيث، الساخر والمتجهّم، الحنون والقاسي.. تناوبوا في إشاعة أسباب البهجة بالحب الخالص بين رشا ومأمون، وكذا في أسباب التعاطف معهما، وهما يصارعان، من أجل الوصول إلى يوم الزفاف الذي تأخر سنوات، وتقرّر أن يتمّ بعد عشرة أيام، يضيء الفيلم في أثنائها على حال اليمن كله عقودا، البلد الذي قاسى أهلوه كثيرا، في جولات الاحتراب والتخلف والفقر..
في الأيام العشرة، بدا فيلم عمرو جمال (سيناريو مازن رفعت) معنيّا بالحالة الفردية لكلٍّ من المخطوبيْن، من دون كلامٍ كثيرٍ عن خرابٍ يحيط بالشوارع، ودمارٍ ظاهر تركته جولات الاقتتال، لأن عينيك ستشاهدانه، سيّما في مختتم الفيلم، وأنت تسمع أغنيات الزّفّة البديعة، ولأن مستفيدين من الحروب، ومن أزمات النزوح والحال المعيشي الصعب، سترى نماذج منهم يُضاعفون محنة الشاب والشابّة اللذيْن ينتظران الزفاف، ثم يُصابان باليأس، يستسلمان، يقتنعان بالواقعية إيّاها، إلا أن شحنةً من أملٍ بعيد، وعوناً من أصدقاء وإخوة، وشيئاً من روح إرادةٍ تستيقظ، ينقذهم، ويأخذهم إلى يوم الزفاف المنتظر.. فنفرَح، نحن المشاهدون، بهما، وبفيلمٍ سينمائي يستحقّ الغبطة به .. حقا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.