المنع المشترك في لبنان

المنع المشترك في لبنان

03 اغسطس 2019
+ الخط -
يعتبر بعضهم أن "الضغط في سبيل المنع" أسلوب ناجع، قد يمنع انفجاراً ما، على مستوى الشعوب أو الأفراد أو الأفكار. بالطبع، غالباً ما يؤدي الضغط إلى فوضى أو تغيير مفاجئ في مسارٍ روتينيّ، وقد تنجم عنه تبدّلات جوهرية، تُرسي مفاهيم جديدة وتسنّ قوانين مجتمعية، سواء مكتوبة أو بحكم الممارسة. في حالة منع حفلة موسيقية في منطقة لبنانية، كان واضحاً أن الضغط الذي بُذل كان يستهدف جملة أمور في لاوعي الضاغطين ووعيهم. في لاوعيهم أن شيئاً ما قد انكسر، ولا قدرة لديهم على الدفاع عنه سوى بالصراخ والتهديد بالضرب والقتل والاعتداء. يشبه ذلك ما فعلته الإمبراطورية الرومانية ضد المسيحيين الأوائل الذين انتشروا بالكلمة لا بالسيف، وسقط منهم الملايين ضحايا تحت براثن الأسود في ميادين روما. وفي الوعي، لا يمكن لمن رأى جموعاً متشدّدة إلا أن يظهر قوته في مكان مشابه في التشدّد. عليه، استولدت حالة متطرّفة، بدأت في الانتشار بشكل أسرع من قبل في لبنان. وهو أمر غير اعتيادي في بلد هو في العادة طائفي، لكنه غير متشدد. أما حالياً فيبدو أن المسار تغيّر. بالتالي، ما سيحصل من الآن هو تطبيق الأحكام المتشددة في كل بقعة من لبنان، إذ لم تكد تمرّ بضعة أيام على منع الحفلة الموسيقية في منطقة محسوبة على المسيحيين حتى مُنعت حفلة أخرى في منطقة محسوبة على المسلمين. وبذلك اكتمل جوهر "العيش المشترك" في مفهوم "المنع" والمغالاة في التشدّد.
سيفتح ذلك باباً واسعاً في المستقبل القريب، لمنع مزيد من الأفلام والمسلسلات والحفلات الموسيقية، ولمَ لا إغلاق مراكز السهر والموسيقى والـ"ستاند أب كوميدي"، والتضييق على البرامج التلفزيونية، سواء في نوعية الملابس أو الأغاني أو الحفلات، وإلزام الناس بالتفوّه بكلام محدّد، وارتداء زيّ محدّد، والخضوع لرجال الدين وأنصارهم. نعم كأنه "داعش" يتكرّر في بيروت، بعد الرّقة والموصل ودير الزور، لكنه غير مسلّح حالياً، من دون ضمان المستقبل. وبعد قليل، سنجد أنفسنا وكأننا في ألمانيا الشرقية خلف ستار حديدي، وجحافل من جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي (ستازي) تراقبنا في قلب أسرّتنا. مع العلم أن الألمان الشرقيين كانوا في حالة أفضل نسبياً من اللبنانيين، على الرغم من حالات الفرار الجماعية إلى الغرب.
الضغط الحاصل حالياً لا يُمكنه عكس التاريخ، وإن كان قادراً على إحداث الضجيج فيه. الزمن هو العنصر الوحيد الذي لا يُمكن إيقافه، ولا التحكّم به. لا يُمكن لبلدٍ مثل لبنان تحمّل التشدّد، مهما غالى من يملك السلطة فيه بذلك. لن يتعلّم الضاغطون، أي المتحكّمون بمراكز السلطة الدينية والسياسية، من التاريخ. أصلاً هم مصنوعون من ذلك، من فكرة "عدم التعلّم". ليقف اللبنانيون لحظة ويفكروا: "ماذا جنينا من التقوقع والانعزال والخضوع للخوف والرهبة في التواصل مع الآخر ومع الأفكار ومع المجتمع؟"، سيدركون أن الإجابة هي "لا شيء". في المقابل، الانفتاح والتطور ومقارعة الحجّة بالحجّة أمور تتيح للجميع كسر جدران الخوف والإذلال الذي يعيشون فيه، وبلوغ أقصى درجات التقدّم الفكري. ويطاول هذا أيضاً من يظنّ نفسه "منفتحاً"، لأنه وضع حدوداً لانفتاحه، ما سيؤدي به لاحقاً إلى جماده وموته السريريّ فكرياً. جوهر الحياة على كوكب الأرض قائم على التطور وعلى التكيّف وعلى مواكبة التغيرات الطبيعية والعقلية والفكرية. يمكن لنا بنظرة واحدة حولنا فهم الكثير، وتغيير نمطية التفكير الموجّه أو المحدّد، أو الذي تشرّبناه في أزمنة سابقة. لا مكان لـ"داعش" بيننا، بل للحرية. ألم يكن هذا جوهر لبنان أساساً؟ لا يملك المسيحيون والمسلمون في لبنان سوى حل واحد أحد أبدياً: الانفتاح لا الانعزال. التمدّد لا التقوقع. لأن الانعزال والتقوقع هما المدخل الأساسي للفناء الذاتي، أما الانفتاح والتمدّد فحياة تكسر مفهوم الجماد.

دلالات

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".