المواطنة والحب والاحترام

المواطنة والحب والاحترام

20 اغسطس 2019
+ الخط -
كنت أعتقد أن ثمة ارتباطاً موضوعياً بين احترام الناس مواطنتهم في بلدانهم، بما ينبني عليها من تأديتهم واجباتهم تجاهها، وحرصهم على شوارعها ومرافقها العامة وقوانينها، وما توفره لهم دولتهم من حقوق ورفاه، حتى زرت جورجيا قبل أيام، ورأيت ما فيها من التزام واحترام وانتماء، على الرغم من أن شعبها لا يعيش الرفاه، ولا يتجاوز متوسط الدخل الشهري لموظفيه، بحسب الإحصاءات المتوفرة على الإنترنت، 500 دولار. 
لماذا إذن يمكن أن تتوفر هذه المواطنة الصالحة التي تجعل المدن غايةً في النظافة، والقانون غايةً في الاحترام، والسلوك البشري غايةً في الإنسانية، على الرغم من الفقر؟ هذا بينما شعوب فقيرة أخرى تعيث في بلدانها إهمالاً وفوضى، ونجد الفقر تفسيراً لسلوكها، كما أن شعوباً غنية غيرها تمارس حياتها بالتزامٍ وأخلاقياتٍ رفيعة، ويكون رفاهها تفسيراً لحسن سلوكها؟
ربما الإجابة في الأمل: ليس شرطاً أن تكون البلاد غنيةً، لكن عليها أن تمنح مواطنيها الأمل بغد أفضل؛ فتعمل قيادتها جاهدة لبناء البلاد وتطويرها، وتحترم حقوق مواطنيها وإنسانيتهم، وتجعلهم يلمسون التغيير والتطوير يوماً بعد يوم، بينما تحافظ هي على نظافة اليد، وتمنع الفساد، فضلاً عن أن تمتنع بنفسها عنه، وتمتثل للمساءلة وتحافظ على الشفافية. بكلمات قليلة: تتوفر على برنامج عملٍ يصنع الأمل، وتعمل بجد لتنفيذه.
يمكن تطبيق المسألة على الحالة العربية، فقد مرّت الشعوب العربية خلال عقود سابقة، خصوصاً في الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي، بأوضاع اقتصادية ليست أقل سوءاً مما شهدته عشية ثوراتها، من دون أن يؤدي ذلك إلى حالةٍ من الاكتئاب الجماعي، وانعدام للأمل، والاحتقانات النفسية التي تنعكس على علاقات الناس فيما بينهم، فتحوّلها إلى حالةٍ محمومةٍ من التنافس على كل صغيرة وكبيرة، حتى يرى الواحد في ما يصيب غيره من خير انتقاصاً من حصته وقدره وقيمته! في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، مثلاً، كان العرب يتوفرون على ذلك الأمل: كان ثمّة إدارة يثق الناس بحصافتها، تقول إنها تعمل على التحرّر من نفوذ الأجنبي وسطوته، وعلى تحرير الأرض من المحتل. صحيح أن تلك الإدارة فشلت، لكن الشعوب العربية ما تزال تُكنُّ لها المحبة، ذلك أنها قدّمت لها خطة عمل، ولم تتركها بلا هدف ولا
والمعنى أن الثورات العربية لم تقع لأن الشعوب غضبت من سوء أوضاعها الاقتصادية وحسب، بل من سوء إدارة أوضاعها كلها: الاقتصادية والسياسية والحضارية. لقد تبدّى أنها غاضبةٌ في المجال الاقتصادي، مثلاً، من الفساد الذي صنع أزمتها الاقتصادية، والذي ظل يمنع حل تلك الأزمة، لا من مجرّد وجود الأزمة، ذلك أن وجود إدارةٍ حصيفةٍ واضحة الهدف ومبرمجة الخطوات لحل أي أزمة، لا بد أن تزرع الثقة عند الشعوب، فتمضي معها من غير تململ، وترضى بالتضحية والصبر، أما حين تغيب مثل تلك الإدارة، وتكون الشعوب مطالبةً بالتضحية إلى ما لا نهاية، فإن أحداً لن يستطيع الصبر من أجل فاسدين، ليس بينهم وبين المصالح العامة رابطٌ أو علاقة. بكلمات أخرى، تمحورت المشكلة دائماً حول افتقادنا وجود "جدول أعمال"، وفي أننا شعوب بلا خطة عمل، وبلا هدف استراتيجي واضح المعالم.
ثمّة قول حكيم مفاده بأن وظيفة القائد هي "صناعة الأمل"، فالشعوب تُحب أن تكون حية وعاملة، وأن يكون لديها هدف استراتيجي تمشي إليه ببرنامج عمل واضح. ساعتها تشعر بأنها تلاقي من بلادها الحب والاحترام، فتبادلها الحب والاحترام بالضرورة، وتحافظ عليها كما يحافظ كل فرد على ممتلكاته الخاصة. ولكن الشعوب تخطئ أحياناً، فتثق بمن لا يملك إلا الخطابة التي لا قيمة لها في إنجاز النجاح، ظناً منها أنه هو من يبعث الأمل، ويمتلك برنامج العمل. وهنا بالضبط عليها أن تجد سبيلاً لتصحيح المسار، كي تستعيد أملها الوطني، وفي ذلك تتباين السُبل.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.