مَنسيون في مقاهي المنفى

مَنسيون في مقاهي المنفى

02 اغسطس 2019

(لؤي كيالي)

+ الخط -
تعجّ لندن بالمقاهي العربية، وتغص هذه المقاهي برواد جاؤوا من كل منافي الأرض، هربوا من غبار المعارك، ليستظلوا بأمن بريطانيا وديمقراطيتها، ويلوذوا بحياتهم الجديدة، تحت سحب دخان الأراجيل، بعدما فرّوا بجلودهم من غبار الحروب التي تطحن أوطانهم. في مقاهي لندن، يلتقي المنكوبون في الأرض لاجترار خيباتهم مرّات، واجتراح لحظة فرح ولو مرّة واحدة. يشربون الشاي والقهوة، يدخنون ويتحدّثون بأصوات مرتفعة بجميع اللهجات العربية، يخوضون في أحاديث الزواج والطلاق، الفشل والنجاح، المال والأعمال، المغامرات العاطفية في بلاد العجم، آخر المستجدات في قوانين الهجرة واللجوء، وأفضل الطرق وأرخصها في تهريب البشر بلا غرق. ولا يكتمل الهَرج من دون الغرق في أخبار الوطن الذي تركوه كارهين أو مكرهين، لا فرق. 
في أحد مقاهي منطقة بارك رويال، غرب العاصمة البريطانية، جمعتني مصادفةٌ مع شابة غزّية، تركت أهلها في القطاع الفلسطيني لتبني وطناً آخر في المنفى. لحظات قليلة حتى عرفت أن الشابة، في عقدها الثالث، غادرت غزّة تاركة خلفها ثلاثة أبناء، تركتهم إلى حين ميسرة في رعاية زوجها السابق. تروي الشابة: "أغلق الاحتلال والحصار كل أفق، مات كل أمل تحت هول الحصار والحروب المتتالية على القطاع، لم يعد من حياة هناك، فخرجت أشقّ دروب حياة أخرى". وتتابع، وهي تمسح دموعها، وتحاول دفع الكلمات: "أشهر قليلة، أو ربما سنوات قليلة، وستفرج عليّ، سأحصل على أوراق الإقامة، وتصريح العمل، ثم لمّ الشمل العائلي، هنا سأحقق لأولادي مستقبلاً أكثر أماناً". أسمع تفاصيل حياة هذه الغزّية الشجاعة، وأرى فيها كل الأشواك والأشواق الفاصلة بين الوطن والمنفى.
تشاء المصادفة أيضاً أن ألتقي الشابة الغزّية الاستثنائية في مقهى لندني استثنائي. اختار صاحب المقهى، بسابق إصرار، أن يعرض لرواد محله رفوفاً من الأعمال الأدبية العالمية، في دعوة مبطنة إلى القراءة بدلاً من إسراف الوقت في الثرثرة الفارغة. كانت الشابة الغزّية شخصية حقيقية، تشبه في دمها ولحمها، في ألمها وأملها، كل الشخصيات التي تقفز من روايات تحفل بها زوايا المكان، وجلها يحكي عن الهجرة أو الرحيل القسري عن الوطن. ما في ثنايا هذه الروايات من شخصيات وروايات عن الحنين والشوق والهوية والصراع واختلاف العادات والتقاليد يحاكي، إلى حد كبير، تضاريس حديث تجاذبت أطرافه مع الشابة الغزّية في مساء لندني دافئ.
في رواية المصرية ميرال الطحاوي، "بروكلين هايتس" (دار الشروق، القاهرة، 2011)، تقرّر هند، بعدما هجرها زوجها، الهجرة مع ابنها إلى الولايات المتحدة الأميركية، فتقطن في حي بروكلين الذي يضم مجموعات متعدّدة الجنسيات والثقافات. تعمل المهاجرة المصرية مدرّسة للغة العربية، وبائعة في محل حلويات. تجتر في غربتها ذكريات الطفولة والمراهقة في بلادها. وفي رواية اللبنانية رينيه الحايك "أيام باريس" (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2004)، تسافر ميرا للدراسة في باريس، فتعيش صراع الحضارات، وتبدأ بمحاولة استكشاف موطنها الأصلي وهي بعيدة عنه. ويروي رافد في رواية العراقية حوراء النداوي "تحت سماء كوبنهاغن" (دار الساقي، لندن، 2009)، تفاصيل حياته في العراق، وكيف اضطرته الظروف للهجرة والقدوم إلى الدنمارك، فيما تخبره هدى عن طفولتها، وهي المولودة في كوبنهاغن لأبوين عراقيين. وفي رواية التونسي حسونة المصباحي، "نوارة الدفلى" (جداول للنشر والتوزيع، بيروت 2011)، تسرد ناديا، من سرير في مشفى في ميونخ، حكايتها بعد إصابتها بمرض خبيث، وكيف تركت تونس، وتزوجت من رجل مهاجر في ألمانيا، وأتت لتعيش هنا. وتحكي بمرارة تساوي ألم مرضها كيف هربت من زوجها الذي يضربها ويشتمها، ولجأت إلى سيدة ألمانية، وعاشت حريتها إلى أقصاها، فعثرت على جسدها وحرّرته، وحققت ذاتها.
"لو استرقنا السمع، سيأتينا من بعيد أنين ضحايا البشر عبر التاريخ، سيؤرّقنا الأنين بعض الوقت، ثم سيخفت سريعا". بهذه الكلمات القاسية، يفتتح المصري هشام الخشن روايته "حدث في برلين" (مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2018)، وشخّصت مصائر الشعوب، ومدى انحياز التاريخ لتخليد الطغاة، وتناسي ضحاياهم.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.