الظلامية في العهد اللبناني القوي

الظلامية في العهد اللبناني القوي

02 اغسطس 2019
+ الخط -
ماذا لو بدّلنا الأدوار، على سبيل التمرين الذهني، وافترضنا أن الطوائف الإسلامية في لبنان هي التي جنّ جنونها وهددت بالذبح والتفجير والقتل والسحل (تماماً كما فعل مسيحيون برعاية كنسية في بلد جبران باسيل) في حال قدّمت فرقة موسيقية، حفلة لا تُرضي أحزابهم ومؤسساتهم الدينية ودار فتواهم، في منطقة ذات غالبية ديمغرافية مسلمة؟ أغلب الظن أن تحالفاً عالمياً كان سيدق طبول الحرب ضد "الإرهاب الإسلامي"، وكانت تباكت البشرية على "ضياع لبنان على يد دواعش القرن الجديد"، وربما تزاحمت وفود برلمانية غربية للتضامن مع "مسيحيي المشرق" (الاسم المطلوب ترويجه من تحالف الأقليات لشطب عبارة المسيحيين العرب) "المهدّدين بالانقراض"، ومن يَعلم، كان يُحتمل أن تُستعاد عروض إحضار سفن بهدف نقل المسيحيين إلى برّ الأمان الأوروبي والأميركي والأسترالي. لكن أن يكون مسيحيون عرّابي الحملة الداعشية على فرقة موسيقية، وأن يتصدّر الحملة عونيون معروفون ورجال دين ينفخون السيجار الكوبي ليلاً، ويتخصصون في سن قوانين محاكم التفتيش نهاراً، وبينهما التحريض على مغرّد، وتحريك الشبيحة ضد فنان، واستنفار الجيش الإلكتروني لتشويه مفكر، فإن ذاك لا يستحق من الغرب سوى استغراب وسائل إعلامه، فقط الاستغراب، مثلما فعلت "نيويورك تايمز"، من دون أن يستدعي ذلك عندها شعوراً بواجب مقارنة ما حصل في هذا البلد مع سلوكيات "داعش" وأشباهه.
كسبت الظلامية المسيحية في لبنان جولة جديدة في تمكنها من منع الحفل الموسيقي، سبقتها صولات تكاد لا تُحصى في هذا "العهد القوي". انتصارات مستعارة من العصور الوسطى تتبارى فيها الطوائف والمؤسسات الدينية، شرط ألا تتطاول طائفة معينة فتحاول تأديب فرد من مذهب آخر مثلاً. فقط حينها، يسحب رجال الدين سيوفهم، مثلما كاد يحصل عندما أحالت قاضية لبنانية مغني فرقة "مشروع ليلى"، حامد سنو، وهو مسلم سني، ليتلقّى ما يشبه العظة الدينية عند رجل دين مسيحي، فغضبت دار الفتوى: نحن "نربّي" الخارجين عن قطيعنا، وأنتم "تربّون" الشاردين عن صراطكم المستقيم. أين يمكن أن ترتكب إهانة كهذه إلا في لبنان؟ أين يمكن العثور على فضيحة أن يقوم قاضٍ أو قاضية بإحالة فرد لـ"يربّيه" رجل دين ويعلّمه مضار الإلحاد على الصحة العامة، وسيئات المثلية الجنسية على تماسك المجتمع والعائلة؟
ليست قضية حفل "مشروع ليلى" مسألة ذائقة فنية. كانت ولا تزال عنواناً للحرية في مواجهة القمع: حرية أن يحضر أيّ أحد، أيّ شيء. حريته في أن يَشتُمَ المستوى الفني للعارض وللمعروض بعد أن يشاهده، لا لأن العصابة أخبرته أنه "حرام أخلاقياً". حرية أن يعبّر من يشاء عمَّا يشاء، وأن يقاطَع أو يُشجَّع، من دون أن يُشعرنا الأخ الأكبر، في كل دقيقة وكل مناسبة، أنه هو القابض على مفاتيح عقولنا وحرياتنا وسلوكياتنا، وهو من يحدد السقف ومدى ارتفاعه.
تستحضر الفضيحة المذكورة ما كان يردده راحل اضطهدته كنيسته، وطاردته هو ورتبته السامية في الهرمية الإكليريكية، "المطران الأحمر" غريغوار حداد. تعب الرجل، قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، وهو يحاول إفهام "رعيته"، وكنيسته وناسه والساسة الناطقين باسم المسيحيين، أن فرصتهم الوحيدة لتفادي الانقراض في لبنان (ديمغرافياً واجتماعياً وسياسياً) وفي العالم العربي، هي بتبنّي مشروع العلمانية الشاملة، وبرنامج عمل المواطنة المتساوية، وسلوك درب كل ما يناقض الانعزال، والانخراط في قضايا محيطهم الأكبر، وتصدّر حملة إلغاء الطائفية. كل ما فعلته كنيسة المطران الراحل ورعاياها جاء معاكساً تماماً لعظاته: تزمّت أكبر، انعزال أكثر، رجعية أعمق، غيرة لا تُطاق من أحوال المحيط المنحدرة في وادٍ بلا قعر، وفوق هذا كله عنصرية تُترجم بأنشودة "أنتم الكمية ونحن النوعية"... نوعية صاحب أوبريت جينات النجوم الخمس.

دلالات

أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري