من وجدي الثلاثينيات إلى وجدي "العشرات"

من وجدي الثلاثينيات إلى وجدي "العشرات"

30 يوليو 2019
+ الخط -
كتب الشاب السكندري إسماعيل أدهم، في ثلاثينيات القرن الماضي، مجموعة رسائل بعنوان "لماذا أنا ملحد"، يشرح فيها أسباب ارتداده عن الإسلام وإلحاده. ويقول إنه سعيد ومرتاح في إلحاده، مثلما يجد المسلم الصوفي راحته في تصوفه. نشر الرسائل بعدها في كتابٍ صدر في أجواء مريحة نسبيا، وأثار الجدل والنقاش، حول أفكار أدهم. رد عليه الشيخ عبد المتعال الصعيدي بكتابه "لماذا أنا مسلم"، وكذلك محمد جمال الفندي في "لماذا أنا مؤمن"، إلا أن الرد الأبرز والأعمق كان لواحد من أهم مفكري الإسلام في القرن الماضي، وهو العلامة محمد فريد وجدي، صاحب دائرة معارف وجدي التي حرّرها بنفسه، مجموعة مقالات عنوانها "لماذا هو ملحد"، صدرت بعدها في كتاب. وكان وجدي وقتها يقارب الستين، (من مواليد 1878). شيخ ومفكر وأزهري، له كتب وأبحاث ودائرة معارف، رئيس تحرير مجلة الأزهر، كل هذه العلامات والشرعيات ويناظر شابا عمره 27 سنة، ملحدا، يعلن إلحاده في وضوح، ويدافع عنه في وضوح، ويهاجم منطق الإيمان في وضوح، فيخاطبه العلامة وجدي قائلاً: حضرة المحترم إسماعيل أدهم!
لم يكن المشهد مثاليا خالصا، فقد تلقى أدهم ردا من أحد شيوخ الدولة وقتها، يوسف الدجوي، يحرّض عليه، ويعتبر كتابه إساءة للدولة المصرية وحكومتها ومليكها المفدّى، والباقي معروف، إلا أن "الحالة" التي أحدثها وجدي الثلاثينيات ورفاقه هي التي غلبت. كان المناخ يسمح بحوارٍ راقٍ. كان أدهم راقيا في طرحه، لم يبتذل فكرته بعبارات سوقية تستفز مشاعر الناس، مثلما يحدث الآن من ملحدي "السوق". وكان وجدى أيضا في منتهى الرّقي، لم ينزلق إلى خطاب التكفير، على الرغم من أنه يناظر كافرا سعيدا بكفره، ملحدا مرتاحا بإلحاده. دافع عن حق أدهم في أن يعتقد ما يشاء، وأن يكتب ما يشاء، لم يجد فيما كتبه مؤامرةً، أو مكرا عظيما بالإسلام، وجده مفيدا، وقال إن الخلاف هو سر قوة الإسلام، وإن المجاهرة بالإلحاد قد تنال من ضيقي الأفق، لكنها لن تنال من العقيدة الإسلامية القوية، وكذلك كان رد عبد المتعال الصعيدي ومحمد جمال الفندي. .. كانوا كبارا.
اليوم نحن في زمن الصغار، يموت رئيس تونس، الباجي السبسي، الذي حافظ على بلاده، ووقاها شرور مصر وسورية واليمن، فينهش في جثته وجدي غنيم، يسبّه، ويسب من يترحم عليه. ويجد عبد الفتاح مورو نفسه أمام فوهة المزايدات، فيردّها عليه ويصفه بالقاذورات، وبأن مجرد ذكر اسمه يستوجب الوضوء. خطاب وجدي استدعى خطاب مورو، هذا هو حالنا، بؤسنا. ليس وجدي غنيم داعية فردا، أو عضوا عاديا في جماعة الإخوان المسلمين. هو "حالة"، هو الأكثر تعبيرا عنها، لوضوحه، وعدم التفافه، وإصراره. هو مشروع لتسميم العالم بالقبح والكراهية والبذاءات، والمبرر: الإسلام!
الحالة نفسها هي ما تعرّض لها برنامج "قراءة ثانية" في حلقاته الأولى، وهي ما يتعرّض لها الآن برنامج "الدحيح"، وهي ما يقاسيها آخرون، يقدّمون محتوىً أهم من البرنامجين، ولكن داخل أسوار الجامعة، لا يدري بهم أحد، يستبعدون ويفقدون وظائفهم ومورد رزقهم ويبخسون جهدهم، وترفض رسائلهم للماجستير والدكتوراه، على الرغم من استيفائها الشروط العلمية، فقط لأنها تحمل أفكارا مختلفة عن آراء مشايخهم، وهم أبناء المؤسسة الدينية في تكوينهم، وأبناء النص في طرحهم. كل ما يأملونه، وهم مؤمنون، يقينا، نصف ما تمتع به ملحد في مجتمع "وجدي الثلاثينيات"، فلا يجدون من أساتذتهم سوى ما يقذفه في المجال العام "وجدي العشرات"..
مكاسبنا في الثلاثينيات كانت كتابا واحدا في الدعوة إلى الإلحاد، وعدة كتب ممتعة ومفيدة تنطق بحقائق الإيمان. انتهت المعركة، وبقيت أفكار وجدي الثلاثينيات والصعيدي والفندي وأحمد زكي أبو شادي وغيرهم، فما هي مكاسبنا الآن من وجدي غنيم وعبد الله رشدي وإياد قنيبي وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري وكل دعاة القبح والتطرّف والحدية في الخطاب، واغتيال الخصم وتكفيره وتشويهه؟... الإجابة داعش، وداعش قليل.