حكاية السيدة سين وابنها صاد

حكاية السيدة سين وابنها صاد

28 يوليو 2019
+ الخط -
السيدة سين، وهي امرأة جميلة، زوجُها متوفّى، تعيش مع ابنها الوحيد في إحدى المدن السورية. كانت راجعةً إلى بيتها في آخر السهرة، مع أنها معتادة على العودة إلى البيت في حدود الساعة الثالثة فجراً، مثل معظم النساء السوريات اللواتي يعشن في ربوع الأسد. عند الباب، أخبرها أحد الجيران بأن شاباً من الحارة سأل عنها، وترك لها رقمَ جَوّاله.
الكهرباء نادراً ما تنقطع عن المدينة السورية التي تسكنها سين، إلا أنها، في تلك الليلة، كانت مقطوعة. أسرعت إلى داخل المنزل. تعثرت ببعض الأشياء فأسقطتها على الأرض. لم تبال بما نجم عن سقوطها من ضجيج وقرقعة. أشعلت شمعةً، واتصلت بالشاب، فرحّب بها، وعَرَّفَها بنفسه أنه ابنُ البقال الذي في الحارة الثانية، وحكى لها أنه بينما كان عائداً إلى بقالية والده، حاملاً سحارةَ بندورة، إذ نزلتْ قَدَمُه على شيء لزج ملقى على الأرض، فزحط، ووقع من طوله، وحينما نظر إلى الشيء اللزج الذي تسببَ في وقوعه، اكتشف أنه مغلف رسائل مبتل بالماء الذي يجري بشكل دائم قرب الرصيف، وأنه نظر إلى المغلف، فوجد عليه عنوانها، وهو الآن يريد أن يوصل المغلف إليها، فلعل فيه شيئاً مهماً.
قالت سين في نفسها: يبدو أن مديرية البريد في سورية قد ابتكرتْ طريقةً جديدة لإيصال الرسائل إلى أصحابها، وهي إلقاؤها في إحدى ساحات الحي، أو أحد الشوارع الفرعية، ولا بد أن يعثر عليها أحدٌ يعرف صاحبَها فيوصلها إليه.
قال لها الشاب: عفواً سيدة سين. لماذا سَكَتِّ؟ فضحكت وقالت: كنت أفكر بأنك تستطيع، بما أننا نعيش في دولة القانون والمؤسسات، أن ترفع عليَّ دعوى قضائية تعتبرني فيها متسببةً بإيذائك جسدياً، ومادياً، وتُحَمِّلُني مصروفات الضماد، وثمنَ البندورة التي تبعثرت على الأرض.
ضحك الشاب، وقال لها: الله يسامحك، سيدتي، لا أريد منك شيئاً، فكل هدفي أن أخدم الطيبين أمثالك. .. وبعد قليلٍ حضر إليها، وسلمها المغلف. أخبرته أن المفروض بها دعوته إلى احتساء فنجان قهوة، ولكن الكهرباء مقطوعة، وهي قد تزحط وتقع في أثناء تحضير القهوة، تسبب لها القهوة الساخنة حروقاً من الدرجة الأولى، وتضطر لأن ترفع عليه دعوى "عطل وضرر"، باعتباره المتسبب بذلك!
بعد مغادرة الشاب، فضّت سين المغلف، وقرأت محتواه بلهفة، فوجدت فيه العبارة التالية: إلى السيدة سين، نعلمك أنه قد جرى توقيف راتبك التقاعدي، وراتب ولدك صاد، إلى حين حضوركما إلى دائرتنا لتحديث البيانات. وتقبّلي فائق الاحترام.. دائرة التأمين والمعاشات.
في اليوم التالي، ذهبت سين إلى الدائرة المذكورة، مصطحبة معها ولدها صاد، وكل الأوراق الثبوتية الشخصية الخاصة بكليهما، تحسباً لأي ورقة ثبوتية يمكن أن تطلبها تلك الدائرة. قال لها الموظف المختص، بعدما شاهد البيانات: أوراقك، سيدتي، كلها صحيحة، ومكتملة، ولكن هناك شرطاً جديداً أضافته المديرية الخاصة بنا أخيرا، وعلينا تنفيذه، وهو إحضار شاهديْن من الحي الذي تسكنين فيه.
ضحكت سين وقالت: شاهدان؟ إذا كان الهدف أن أثبت لكم أن صاد ابني، فهذه سهلة، فلقد وضعتُ بين الأوراق التي سلمتك إياها شهادة ولادة من المشفى الفلاني قبل 16 سنة، وإذا كان الهدف أن يشهد الشاهدان بأن زوجي المرحوم هو أبو صاد، فهذه مستحيلة، لأننا، يوم خلفناه، كنا أنا والمرحوم وحيدين، وإذا كنتم تريدون أن تتأكّدوا من أنه وحيد فهذا دفتر العسكرية الخاص به، وهو معفى لأنه وحيد أبويه..
قال الموظف: يجب أن يشهد الشاهدان على أنك لم تتزوجي ثانيةً، ولم تنجبي ولداً آخر. هزّت سين رأسها وقالت هازئة: والله هذه معقولة. ولكن، هل تصرّون على إحضار الشاهدين أم أحضر لكم تقريراً طبياً يفيد بأنني تجاوزت سن الإنجاب؟ وخرجت من الباب وهي تقول: وَبَا يقشكم قَشّ.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...